![]() |
سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية: تحليل سوسيولوجي |
مقدمة: الحشود في مواجهة المجهول – فهم الاستجابات الجماعية
تُعد الأزمات والكوارث الطبيعية لحظات فارقة تكشف عن جوانب متعددة من الطبيعة البشرية والسلوك الاجتماعي. في خضم الفوضى والخطر المحدق، يصبح سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية ظاهرة معقدة تستدعي تحليلًا سوسيولوجيًا دقيقًا. بعيدًا عن الصور النمطية التي غالبًا ما تصور الحشود في هذه المواقف على أنها كتلة غير عقلانية تسودها الهلع والفوضى، يسعى علم الاجتماع إلى فهم الديناميكيات الكامنة وراء الاستجابات الجماعية، والعوامل التي تشكلها، والأنماط السلوكية التي تبرز في ظل ظروف استثنائية. إن فهم هذه السلوكيات ليس مجرد فضول أكاديمي، بل هو ضرورة عملية تساهم في تحسين خطط إدارة الأزمات، وتعزيز فعالية جهود الإنقاذ والإغاثة، وتقليل الخسائر البشرية والمادية. تتناول هذه المقالة بالتحليل أسس سلوك الحشود في سياقات الأزمات، وأبرز النظريات المفسرة، والعوامل المؤثرة، والتحديات التي تواجه إدارة هذه السلوكيات.
مفاهيم أساسية: الحشد، الأزمة، والكارثة
قبل الخوض في تحليل السلوك، من المهم تحديد بعض المفاهيم الأساسية:
- الحشد (Crowd): في علم الاجتماع، يشير الحشد إلى تجمع مؤقت لعدد كبير من الأفراد في مكان واحد، يتشاركون اهتمامًا أو هدفًا مشتركًا، ويتأثرون ببعضهم البعض. يختلف الحشد عن الجمهور (Audience) أو الجماعة المنظمة (Organized Group).
- الأزمة (Crisis): هي موقف حرج أو نقطة تحول تتسم بعدم الاستقرار والتهديد، وتتطلب قرارات سريعة وحاسمة.
- الكارثة الطبيعية (Natural Disaster): هي حدث طبيعي مدمر (مثل الزلازل، الفيضانات، الأعاصير، البراكين) يتسبب في خسائر بشرية ومادية وبيئية كبيرة، ويفوق قدرة المجتمع المتضرر على التعامل معه بموارده الذاتية.
عندما تجتمع هذه العناصر، يتشكل سياق فريد يؤثر بشكل كبير على سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية.
النظريات الكلاسيكية والمعاصرة في تفسير سلوك الحشود
حاول العديد من علماء الاجتماع تفسير سلوك الحشود، ويمكن تصنيف نظرياتهم إلى كلاسيكية ومعاصرة:
1. النظريات الكلاسيكية (غالبًا ما ركزت على "لاعقلانية" الحشود):
- نظرية العدوى (Contagion Theory) لغوستاف لوبون: يُعتبر غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) من أوائل من درسوا سيكولوجية الجماهير في كتابه "سيكولوجية الجماهير" (The Crowd: A Study of the Popular Mind, 1895). رأى لوبون أن الأفراد في الحشد يفقدون وعيهم الفردي ويخضعون لـ "عقل جماعي" بدائي وغير عقلاني. تنتشر المشاعر والأفكار في الحشد كـ "عدوى" عاطفية، مما يؤدي إلى سلوكيات اندفاعية وغير متوقعة. على الرغم من أن هذه النظرية تعرضت لانتقادات كثيرة بسبب تعميماتها وتبسيطها، إلا أنها لفتت الانتباه إلى أهمية التأثير العاطفي في الحشود.
- نظرية التقارب (Convergence Theory): ترى هذه النظرية أن سلوك الحشد ليس نتاجًا لـ "عقل جماعي" جديد، بل هو نتيجة لتجمع أفراد لديهم بالفعل ميول أو دوافع متشابهة. الحشد يوفر لهم فقط الفرصة للتعبير عن هذه الميول المشتركة.
2. النظريات المعاصرة (غالبًا ما تركز على "عقلانية" أو "سياقية" سلوك الحشود):
- نظرية المعيار الناشئ (Emergent-Norm Theory) لرالف تيرنر ولويس كيليان: تقترح هذه النظرية أن سلوك الحشد ليس بالضرورة غير عقلاني، بل يتم توجيهه بواسطة "معايير" سلوكية تنشأ وتتطور داخل الحشد نفسه خلال الموقف. في المواقف الغامضة وغير المألوفة (مثل الكوارث)، يبحث الأفراد عن إشارات حول كيفية التصرف. بعض الأفراد (القادة المؤقتون) قد يقدمون تفسيرات أو يقترحون أفعالًا، وإذا لاقت قبولاً، تصبح هي "المعيار" الذي يوجه سلوك الآخرين.
- نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory) وتطبيقها على الحشود (نموذج الهوية الاجتماعية المفسر لسلوك الحشود - ESIM): طورها باحثون مثل ستيفن رايشر وجون دروري. ترى هذه النظرية أن الأفراد في الحشد لا يفقدون هويتهم الفردية، بل قد يتبنون "هوية اجتماعية" مشتركة مرتبطة بانتمائهم للحشد. هذا الانتماء المشترك يمكن أن يؤدي إلى سلوكيات تعاونية ومنظمة، خاصة إذا كان هناك تصور مشترك للخطر أو هدف مشترك (مثل النجاة أو مساعدة الآخرين). هذه النظرية تتحدى فكرة أن سلوك الحشود في الأزمات هو دائمًا فوضوي وأناني.
من خلال تحليلنا للعديد من الدراسات الميدانية حول الكوارث، نجد أن النظريات المعاصرة، وخاصة نموذج الهوية الاجتماعية، تقدم تفسيرات أكثر دقة وواقعية لسلوك الحشود، حيث تبرز قدرة الأفراد على التعاون والتنظيم الذاتي في مواجهة الشدائد. هذا يتناقض مع الصورة النمطية التي قد تقدمها بعض وسائل الإعلام، والتي قد تتأثر بدورها بـ تحليلات النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت حول صناعة الثقافة وتأثيرها في تشكيل التصورات.
العوامل المؤثرة في سلوك الحشود أثناء الأزمات والكوارث
يتأثر سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية بمجموعة معقدة من العوامل المتفاعلة:
- طبيعة الكارثة وشدتها: نوع الكارثة (زلزال، فيضان، حريق)، وسرعة حدوثها، ومدى الدمار الذي تسببه، كلها عوامل تؤثر على درجة الخوف والضغط النفسي.
- البيئة المادية: خصائص المكان (مفتوح، مغلق، طرق الهروب المتاحة) تلعب دورًا حاسمًا. الازدحام في أماكن ضيقة يمكن أن يؤدي إلى سلوكيات تدافع خطيرة.
- المعلومات المتاحة ومصداقيتها: وضوح المعلومات حول طبيعة الخطر، وإجراءات السلامة، وطرق الإخلاء، ومصداقية مصدر هذه المعلومات، تؤثر بشكل كبير على استجابات الحشود. الشائعات والمعلومات المضللة يمكن أن تزيد من الارتباك والهلع.
- البنية الاجتماعية والثقافية: القيم الثقافية، ومستوى الثقة الاجتماعية، ودرجة التماسك المجتمعي، والخبرات السابقة مع الكوارث، كلها تؤثر على كيفية استجابة الأفراد والجماعات.
- القيادة والتنظيم: وجود قيادة واضحة (رسمية أو غير رسمية) وقدرة على توجيه الحشد وتنظيم جهوده يمكن أن يحول دون تحول الوضع إلى فوضى.
- الحالة النفسية للأفراد: مستويات الخوف، والقلق، والضغط، والإرهاق، والصدمة، كلها تؤثر على القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية. ومع ذلك، من المهم عدم المبالغة في دور "الهلع" غير العقلاني، فالكثير من السلوكيات التي تبدو فوضوية قد تكون في الواقع محاولات يائسة للنجاة في ظروف قاسية.
لقد أثبتت الدراسات المتعددة، مثل تلك التي أجرتها "الهيئة الفيدرالية لإدارة الطوارئ" (FEMA) في الولايات المتحدة أو هيئات مماثلة في دول أخرى، أن التخطيط المسبق والتدريب والتوعية يمكن أن يخففوا من الآثار السلبية لهذه العوامل.
أنماط سلوكية شائعة في الحشود أثناء الكوارث
على الرغم من تنوع الاستجابات، يمكن ملاحظة بعض الأنماط السلوكية الشائعة:
- البحث عن المعلومات والتوجيه: يسعى الأفراد بنشاط للحصول على معلومات حول ما يحدث وكيفية التصرف.
- السلوك المساعد والتعاوني (Altruism and Cooperation): خلافًا للاعتقاد الشائع بأن الأنانية تسود، تظهر العديد من الدراسات أن سلوكيات المساعدة المتبادلة والتعاون تكون شائعة جدًا في الكوارث. يتشكل ما يسمى بـ "المجتمع العلاجي" (Therapeutic Community) حيث يساعد الناس بعضهم البعض.
- التقارب نحو أفراد الأسرة والأحباء: يكون هناك دافع قوي للبحث عن أفراد الأسرة والأصدقاء والاطمئنان عليهم.
- سلوكيات الهروب والإخلاء: محاولة الابتعاد عن مصدر الخطر. قد تكون هذه السلوكيات منظمة أو غير منظمة اعتمادًا على الظروف.
- الجمود أو الذهول (Freezing or Disorientation): قد يصاب بعض الأفراد بحالة من الجمود أو عدم القدرة على التصرف بسبب الصدمة أو الخوف الشديد.
- سلوكيات التدافع (Stampede): تحدث في حالات نادرة نسبيًا، وغالبًا ما تكون نتيجة لتصور وجود خطر وشيك ومحدودية طرق الهروب، وليس مجرد "هلع" جماعي أعمى.
- الشائعات وانتشارها: في غياب معلومات رسمية وموثوقة، تنتشر الشائعات بسرعة ويمكن أن تؤثر على سلوك الحشود.
النمط السلوكي | الوصف | العوامل المؤثرة المحتملة |
---|---|---|
السلوك المساعد | تقديم المساعدة للآخرين، الإنقاذ، تقاسم الموارد | الهوية الاجتماعية المشتركة، التعاطف، المعايير الثقافية |
البحث عن المعلومات | محاولة فهم الموقف، البحث عن توجيهات | الغموض، الحاجة إلى تقليل عدم اليقين |
الهروب/الإخلاء | الابتعاد عن مصدر الخطر | إدراك الخطر، توفر طرق الهروب، توجيهات الإخلاء |
التدافع | حركة جماعية غير منضبطة تؤدي إلى إصابات | الخوف الشديد، محدودية المخارج، تصور خطر وشيك |
انتشار الشائعات | تداول معلومات غير مؤكدة أو خاطئة | نقص المعلومات الرسمية، القلق، الحاجة إلى تفسير الموقف |
من المهم الإشارة إلى أن الدراسات السوسيولوجية الحديثة، مثل أعمال إنريكو كوارنتيلي (Enrico L. Quarantelli) ودينيس واجنر (Dennis Wenger) من "مركز أبحاث الكوارث" (Disaster Research Center) بجامعة ديلاوير، قد تحدت بشكل كبير الأساطير حول "الهلع الجماعي" و"السلوك غير العقلاني" للحشود في الكوارث، مؤكدة على أن السلوك غالبًا ما يكون هادفًا وموجهًا نحو حل المشكلات، وإن كان يتم في ظروف قاسية وغير مألوفة.
تحديات إدارة سلوك الحشود في الأزمات والتوصيات
تواجه السلطات والمنظمات المعنية بإدارة الأزمات تحديات كبيرة في التعامل مع سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية. من هذه التحديات:
- مكافحة الشائعات والمعلومات المضللة.
- ضمان تدفق معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب.
- إدارة عمليات الإخلاء بشكل آمن وفعال.
- توفير الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين.
- التعامل مع تنوع احتياجات وسلوكيات المجموعات المختلفة داخل الحشد.
للتغلب على هذه التحديات، يمكن تقديم بعض التوصيات المستندة إلى الفهم السوسيولوجي:
- التخطيط المسبق والتدريب: تطوير خطط طوارئ شاملة تتضمن سيناريوهات مختلفة لسلوك الحشود، وإجراء تدريبات منتظمة عليها.
- التواصل الفعال والشفاف: استخدام قنوات اتصال متعددة لتقديم معلومات واضحة ودقيقة ومستمرة للجمهور. يجب أن تكون السلطات مصدرًا موثوقًا للمعلومات.
- إشراك المجتمع: تشجيع المشاركة المجتمعية في التخطيط للأزمات والاستجابة لها. يمكن للمتطوعين المدربين أن يلعبوا دورًا هامًا في توجيه الحشود وتقديم المساعدة.
- فهم الديناميكيات المحلية: مراعاة الخصائص الثقافية والاجتماعية للمجتمع عند وضع خطط الطوارئ.
- الاستفادة من التكنولوجيا: استخدام التكنولوجيا (مثل تطبيقات الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي) لنشر المعلومات والتنبيهات وتنسيق جهود الإغاثة.
إن فهم أن الحشود ليست مجرد كتل فوضوية، بل هي تجمعات من الأفراد الذين يحاولون التكيف مع ظروف استثنائية، هو نقطة انطلاق أساسية لإدارة أكثر فعالية وإنسانية للأزمات. وهذا الفهم يتطلب تجاوز النظريات التبسيطية، مثل تلك التي قد ترى في البنى الاجتماعية الثابتة وحدها المحدد للسلوك، والتركيز بدلاً من ذلك على التفاعل الديناميكي بين الأفراد والسياق.
خاتمة: نحو استجابة أكثر وعيًا وإنسانية للكوارث
إن سلوك الحشود في الأزمات والكوارث الطبيعية هو ظاهرة معقدة تعكس تفاعل العوامل النفسية والاجتماعية والبيئية. التحليل السوسيولوجي يساعدنا على تجاوز الأساطير الشائعة وتقديم فهم أعمق للدوافع والأنماط التي تحكم هذه السلوكيات. من خلال هذا الفهم، يمكننا تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لإدارة الأزمات، وتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود، وضمان أن تكون استجاباتنا للكوارث مبنية على العلم والوعي والإنسانية. إن الاستثمار في البحث والتخطيط والتوعية ليس ترفًا، بل هو ضرورة حيوية لحماية الأرواح وتقليل المعاناة في عالم يواجه تحديات متزايدة من الأزمات والكوارث. ندعو القراء إلى التفكير في أهمية الاستعداد المجتمعي والفردي، وكيف يمكن لكل منا أن يساهم في بناء مجتمعات أكثر أمانًا وقدرة على مواجهة الشدائد.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
س1: هل صحيح أن الهلع والفوضى هما السمة الغالبة على سلوك الحشود في الكوارث؟
ج1: لا، هذا تصور نمطي شائع ولكنه غير دقيق في الغالب. الدراسات السوسيولوجية الحديثة تظهر أن سلوكيات المساعدة المتبادلة، والتعاون، والتنظيم الذاتي غالبًا ما تكون سائدة. الهلع الشديد والتدافع الفوضوي حالات نادرة نسبيًا وتحدث في ظروف محددة جدًا، وليست القاعدة.
س2: ما هي نظرية "المعيار الناشئ" وكيف تفسر سلوك الحشود في الأزمات؟
ج2: نظرية "المعيار الناشئ" (لرالف تيرنر ولويس كيليان) تقترح أنه في المواقف الغامضة وغير المألوفة مثل الكوارث، ينشأ سلوك الحشد من خلال تطور "معايير" سلوكية جديدة داخل الحشد نفسه. بعض الأفراد يقترحون سلوكيات، وإذا لاقت قبولاً، تصبح هي القاعدة التي يتبعها الآخرون، مما يوجه سلوك الحشد بشكل جماعي.
س3: كيف تؤثر المعلومات والشائعات على سلوك الحشود أثناء الكوارث؟
ج3: المعلومات الدقيقة والموثوقة ضرورية لتوجيه سلوك الحشود بشكل آمن. في غيابها، أو عند انتشار معلومات متضاربة، تنتشر الشائعات بسرعة. الشائعات يمكن أن تزيد من القلق والارتباك، وقد تؤدي إلى سلوكيات غير مناسبة أو خطيرة، مما يعقد جهود الإغاثة والإنقاذ.
س4: ما هو دور الهوية الاجتماعية في سلوك الحشود أثناء الكوارث؟
ج4: وفقًا لنموذج الهوية الاجتماعية المفسر لسلوك الحشود (ESIM)، يمكن للأفراد في الحشد أن يطوروا شعورًا بـ "الهوية الاجتماعية المشتركة" (مثلاً، "نحن جميعًا ناجون من هذه الكارثة"). هذا الشعور بالانتماء المشترك يمكن أن يحفز سلوكيات إيجابية مثل التعاون، وتقديم المساعدة للآخرين، والتنسيق في مواجهة الخطر.
س5: ما هي أهم الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحسين إدارة سلوك الحشود في الكوارث؟
ج5: تشمل الإجراءات الهامة: التخطيط المسبق الشامل وإجراء التدريبات، توفير معلومات دقيقة وواضحة وفي الوقت المناسب للجمهور، مكافحة الشائعات، إشراك المجتمع في جهود الاستعداد والاستجابة، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين، والاستفادة من التكنولوجيا في التواصل والتنسيق.