فجأة، وبدون سابق إنذار، يتجمد مئات الأشخاص في محطة قطار ويبدأون في أداء رقصة متزامنة. في مدينة أخرى، تنتشر شائعة عبر تطبيق واتساب تسبب هلعًا جماعيًا يدفع الناس إلى تخزين سلعة معينة. وفي مكان آخر، يتجمع آلاف الغرباء في ميدان عام للمطالبة بتغيير سياسي. ما هو الخيط الخفي الذي يربط بين هذه المشاهد المتنافرة؟ وكيف يتحول الأفراد، الذين يتصرفون عادة بعقلانية، إلى جزء من "عقل خلية" أو حشد هائج؟
هذه الظاهرة المحيرة والقوية هي ما يطلق عليه علماء الاجتماع "السلوك الجمعي" (Collective Behavior). إنه السلوك العفوي، غير المنظم، وغير المتوقع لمجموعة كبيرة من الناس. هذا المقال ليس مجرد استعراض لأنواع الحشود، بل هو تشريح عميق للآليات النفسية والاجتماعية التي تحول مجموعة من "الأنا" إلى "نحن" مؤقتة وقوية، قادرة على تغيير مجرى التاريخ أو التلاشي في لحظات.
ما هو السلوك الجمعي؟ تعريف ما وراء الفوضى
يختلف السلوك الجمعي جوهريًا عن السلوك الجماعي المُنظم (Group Behavior). فحضور مباراة كرة قدم أو صلاة في مسجد هو سلوك جماعي، لكنه يتبع قواعد ومعايير اجتماعية راسخة ومتوقعة. أما السلوك الجمعي، فهو يحدث عندما تنهار هذه القواعد المؤقتًا أو تكون غائبة. إنه السلوك الذي ينشأ في المواقف غير المألوفة أو الغامضة أو المهددة.
خصائصه الأساسية تشمل:
- العفوية: ينشأ بشكل غير مخطط له.
- غياب الهيكل: لا يوجد قادة رسميون أو تسلسل هرمي واضح.
- المعايير المؤقتة: يتم خلق قواعد سلوكية جديدة ومؤقتة أثناء الحدث نفسه.
- الطابع العاطفي: غالبًا ما يكون مدفوعًا بالعواطف والمشاعر بدلاً من المنطق العقلاني.
يمكن النظر إليه على أنه "المادة المظلمة" في علم الاجتماع؛ قوة غير مرئية لكنها قادرة على تشكيل الأحداث الكبرى، من الموضات العابرة إلى الثورات الشعبية.
أنماط السلوك الجمعي: من الشائعة إلى الشغب
يتخذ السلوك الجمعي أشكالًا متعددة، بعضها قد يبدو تافهًا وبعضها الآخر مصيريًا. قام علماء الاجتماع بتصنيف هذه الأشكال لفهمها بشكل أفضل.
1. الحشود (Crowds)
الحشد هو تجمع مؤقت لأشخاص يتشاركون في تركيز أو اهتمام مشترك. قسمها عالم الاجتماع هربرت بلومر إلى أنواع مختلفة، منها:
- الحشد العابر (Casual Crowd): أشخاص يتواجدون في نفس المكان والزمان بالصدفة، مثل المتسوقين في مركز تجاري.
- الحشد التقليدي (Conventional Crowd): تجمع يهدف إلى حدث مجدول، مثل حفل موسيقي، حيث يكون السلوك متوقعًا إلى حد كبير.
- الحشد التعبيري (Expressive Crowd): يجتمع لإطلاق طاقة عاطفية، مثل الاحتفالات الصاخبة في ليلة رأس السنة.
- الحشد الفاعل (Acting Crowd): وهو الأخطر، حيث يتحول إلى فعل عنيف أو مدمر، مثل أعمال الشغب أو الهجوم على شخص.
2. الهلع الأخلاقي والهستيريا الجماعية (Moral Panic & Mass Hysteria)
يحدث الهلع الأخلاقي عندما تنتشر حالة من الخوف والقلق المبالغ فيه في المجتمع تجاه قضية أو مجموعة من الناس يُعتقد أنها تهدد القيم الاجتماعية. غالبًا ما تغذي وسائل الإعلام هذا الهلع. أما الهستيريا الجماعية، فهي شكل من أشكال السلوك الجمعي الذي يستجيب فيه الناس لتهديد حقيقي أو متخيل بأعراض جسدية أو عاطفية غير عقلانية.
مثال كلاسيكي: محاكمات السحر في سالم عام 1692، حيث أدت الاتهامات المبنية على الهستيريا إلى إعدام العديد من الأشخاص. وفي العصر الحديث، يمكن رؤية الهلع الأخلاقي في بعض الحملات ضد ألعاب الفيديو أو أنواع معينة من الموسيقى.
3. الشائعات والموضات (Rumors and Fads)
الشائعة هي معلومة غير مؤكدة تنتشر من شخص لآخر. تزدهر الشائعات في بيئة تفتقر إلى المعلومات الموثوقة. أما الموضات والتقليعات (Fads)، فهي أنماط سلوكية مؤقتة يتبعها عدد كبير من الناس بحماس ثم يتخلون عنها فجأة، مثل تحديات تيك توك أو أنماط ملابس معينة.
لماذا نتصرف بهذه الطريقة؟ نظريات تفسير عقل الحشد
السؤال الأهم هو: لماذا يتخلى الأفراد العقلانيون عن فرديتهم داخل الحشد؟ قدم علم الاجتماع عدة نظريات رئيسية.
1. نظرية العدوى (Contagion Theory)
طورها غوستاف لوبون في أواخر القرن التاسع عشر، وتقترح هذه النظرية أن الحشود تمارس تأثيرًا منومًا على أفرادها. داخل الحشد، يفقد الأفراد حس المسؤولية الشخصية والشعور بالهوية، وتنتشر المشاعر والأفعال بسرعة مثل العدوى، مما يؤدي إلى سلوكيات غير عقلانية ومدمرة.
2. نظرية التلاقي (Convergence Theory)
تقترح هذه النظرية عكس ما سبق. فالحشود لا تخلق العقلية الجماعية، بل تجذب أفرادًا متشابهين في التفكير والميول. فمثلًا، لا يتحول تجمع سلمي فجأة إلى شغب، بل إن الأفراد الذين لديهم ميول عنيفة مسبقًا هم من "يتلاقون" في هذا الموقف الذي يوفر لهم فرصة للتعبير عن هذه الميول.
3. نظرية المعيار الطارئ (Emergent-Norm Theory)
تعتبر هذه النظرية الأكثر قبولًا اليوم. يرى أصحابها (مثل تيرنر وكيليان) أن الحشود تبدأ غالبًا بدون قواعد واضحة للسلوك. في هذا الغموض، يمكن لسلوك عدد قليل من الأفراد البارزين أن يؤسس "معيارًا طارئًا" أو قاعدة سلوكية جديدة ومؤقتة. يتبع بقية الحشد هذا المعيار الجديد، ليس بسبب العدوى، بل لأنهم يفسرونه على أنه السلوك المقبول في هذا الموقف المحدد. هنا تبرز أهمية التفاعل الاجتماعي المكثف، حيث يتم التفاوض على هذه المعايير الجديدة بسرعة من خلال الإيماءات والهتافات والأفعال.
4. نظرية القيمة المضافة (Value-Added Theory)
قدمها نيل سملسر، وهي نظرية أكثر تعقيدًا تشبه وصفة كيميائية. يرى سملسر أن السلوك الجمعي يحدث فقط عند توفر ستة شروط بالترتيب:
الشرط | الوصف | مثال (احتجاج) |
---|---|---|
الملاءمة الهيكلية | وجود بنية اجتماعية تسمح بحدوث السلوك. | وجود ديمقراطية تسمح بالتجمع. |
الضغط الهيكلي | وجود مشكلة اجتماعية واسعة النطاق (فقر, ظلم). | ارتفاع معدلات البطالة والفساد. |
انتشار اعتقاد معمم | تحديد المشكلة وسببها وحلها في أذهان الناس. | اعتقاد بأن "الحكومة هي سبب المشكلة". |
عوامل محفزة | حدث معين يشعل شرارة السلوك (الشرارة). | اعتقال ناشط سياسي معروف. |
التعبئة من أجل الفعل | بدء الناس في التحرك والتجمع بشكل منظم. | الدعوة إلى مظاهرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. |
فشل الرقابة الاجتماعية | عجز السلطات (الشرطة, الحكومة) عن منع السلوك. | تردد الشرطة في قمع المتظاهرين الأوائل. |
خاتمة: قوة الفوضى المنظمة
السلوك الجمعي ليس مجرد فوضى عشوائية. إنه تعبير قوي عن التوترات والرغبات والمخاوف الكامنة في المجتمع. إنه يكشف عن مدى هشاشة النظام الاجتماعي الذي نعتبره أمرًا مسلمًا به، وكيف يمكن لمجموعة من الأفراد، في ظل الظروف المناسبة، أن يخلقوا قوة قادرة على التغيير أو التدمير. في عصرنا الرقمي، حيث يمكن للشائعات أن تجتاح العالم في دقائق ويمكن للحشود الافتراضية أن تتشكل وتتحرك بنفس سرعة نظيرتها المادية، يصبح فهم ديناميكيات السلوك الجمعي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. إنه يذكرنا بأن المجتمع ليس كيانًا ثابتًا، بل هو عملية مستمرة من التشكيل والتغيير، أحيانًا بهدوء، وأحيانًا أخرى كالعاصفة.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
ما الفرق بين السلوك الجمعي والحركة الاجتماعية؟
السلوك الجمعي عفوي وغير منظم وقصير الأمد (مثل أعمال شغب). أما الحركة الاجتماعية، فهي جهد منظم ومستمر وله أهداف واضحة يسعى لإحداث أو مقاومة تغيير اجتماعي (مثل حركة الحقوق المدنية).
هل "التريند" على تويتر يعتبر سلوكًا جمعيًا؟
نعم، يمكن اعتباره شكلاً رقميًا من السلوك الجمعي، وتحديدًا "الموضة" أو "التقليعة". إنه يظهر اهتمامًا جماعيًا سريعًا ومكثفًا ومؤقتًا حول موضوع معين، وغالبًا ما يكون مدفوعًا عاطفيًا ويفتقر إلى هيكل تنظيمي رسمي.
لماذا يفعل أناس طيبون أشياء سيئة في الحشود؟
تفسر النظريات هذا من خلال عدة عوامل: "إخفاء الهوية" الذي يوفره الحشد يقلل من الشعور بالمسؤولية الشخصية. "نظرية العدوى" تشير إلى انتقال المشاعر السلبية بسرعة. و"نظرية المعيار الطارئ" توضح كيف يمكن لسلوك عنيف من قلة أن يصبح القاعدة المقبولة مؤقتًا للحشد بأكمله.
هل يمكن أن يكون السلوك الجمعي إيجابيًا؟
بالتأكيد. لا يقتصر السلوك الجمعي على العنف أو الهلع. يمكن أن يتجلى في أشكال إيجابية مثل التجمعات العفوية لمساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية، أو "الفلاش موب" الفني الذي ينشر البهجة، أو الوقفات الاحتجاجية السلمية التي تعبر عن التضامن الإنساني.