📊 آخر التحليلات

السلوك الدفاعي: لماذا نبني الجدران عندما نحتاج إلى جسور؟

شخص يضع حاجزًا أو درعًا أمامه في موقف اجتماعي، يرمز إلى السلوك الدفاعي.

تخيل أنك تتلقى نقدًا بناءً من مديرك في العمل. على الرغم من أنك تعرف في قرارة نفسك أن كلامه قد يكون صحيحًا، إلا أنك تشعر باندفاع لا يقاوم لتبرير أفعالك، أو إلقاء اللوم على زميل آخر، أو حتى التشكيك في كفاءة مديرك. لماذا تتحول ملاحظة قد تكون مفيدة إلى هجوم شخصي في أذهاننا؟ ولماذا نبني جدرانًا دفاعية عالية بدلاً من بناء جسور من الفهم؟

هذه الاستجابة شبه التلقائية هي ما يعرف في علم النفس وعلم الاجتماع بـ السلوك الدفاعي في المواقف الاجتماعية (Defensive Behavior). إنه ليس مجرد "حساسية مفرطة"، بل هو آلية نفسية معقدة ومتجذرة بعمق، تهدف إلى حماية أغلى ما نملك: إحساسنا بالذات. هذا المقال هو غوص في هذه الآلية، لفهم متى ولماذا نلجأ إليها، وما هي التكلفة الباهظة التي ندفعها عندما تصبح هي استجابتنا الافتراضية.

ما هو السلوك الدفاعي؟ تعريف يتجاوز "الدفاع عن النفس"

السلوك الدفاعي هو أي رد فعل (لفظي أو غير لفظي) يهدف إلى حماية الذات من تهديد متصور. في السياق الاجتماعي، هذا التهديد ليس جسديًا، بل هو تهديد لتقديرنا لذاتنا، أو لـ مكانتنا الاجتماعية، أو للصورة التي نحاول تقديمها للعالم. إنه رد فعل ينشأ عندما نشعر بالحكم، أو النقد، أو اللوم، أو سوء الفهم.

من منظور علم الاجتماع، السلوك الدفاعي هو استجابة مباشرة لـ الضغوط الاجتماعية. عندما نشعر بأننا لا نلبي التوقعات أو ننتهك المعايير الاجتماعية، يتم تفعيل نظام الإنذار النفسي لدينا، وغالبًا ما يكون السلوك الدفاعي هو خط الدفاع الأول.

ترسانة الدفاع: الأشكال الشائعة للسلوك الدفاعي

عندما نشعر بالتهديد، نلجأ إلى ترسانة من الاستراتيجيات الدفاعية، غالبًا دون وعي منا. أشهر هذه الاستراتيجيات تشمل:

  • الإنكار (Denial): رفض الاعتراف بوجود مشكلة أو خطأ. ("أنا لم أفعل ذلك").
  • التبرير (Justification): تقديم أعذار أو تفسيرات منطقية ظاهريًا لسلوك غير مقبول. ("لقد فعلت ذلك، ولكن كان لدي سبب وجيه").
  • إلقاء اللوم (Blaming): تحويل المسؤولية إلى شخص آخر أو إلى ظروف خارجية. ("إنها ليست غلطتي، بل غلطة فلان").
  • الهجوم المضاد (Counter-attacking): الرد على النقد بنقد مضاد، وتحويل التركيز من سلوكنا إلى سلوك الشخص الآخر. ("وكيف تجرؤ على انتقادي وأنت تفعل كذا وكذا؟").
  • الانسحاب (Withdrawal / Stonewalling): رفض التواصل، أو الانسحاب عاطفيًا، أو بناء "جدار صامت" لتجنب المواجهة.

من منظور سوسيولوجي: حماية "الوجه" الاجتماعي

يقدم عالم الاجتماع إرفنج جوفمان الإطار الأكثر قوة لفهم السلوك الدفاعي من خلال مفهوم "العمل على الوجه" (Face-Work). "الوجه" هو الصورة الإيجابية التي نحاول تقديمها عن أنفسنا في كل تفاعل اجتماعي. إنه جزء أساسي من شخصيتنا الاجتماعية.

عندما نتعرض للنقد أو عندما نرتكب خطأ، فإننا "نفقد ماء الوجه". السلوك الدفاعي، من هذا المنظور، هو محاولة يائسة لـ "حفظ ماء الوجه". كل تبرير، وكل لوم، وكل هجوم مضاد هو استراتيجية لإصلاح صورتنا الاجتماعية المتضررة وإعادة تأكيد قيمتنا في نظر الآخرين. إنها ليست مجرد حماية للأنا الداخلية، بل هي أداء مسرحي يهدف إلى استعادة مكانتنا على المسرح الاجتماعي.

مقارنة بين الاستجابة الدفاعية والاستجابة المتقبلة
الموقف الاستجابة الدفاعية (بناء الجدران) الاستجابة المتقبلة (بناء الجسور)
تلقي نقد بناء "أنت لا تفهم الموقف." (تبرير/لوم). "شكرًا لملاحظتك. هل يمكنك أن تشرح لي أكثر؟" (فضول).
ارتكاب خطأ "لم يخبرني أحد أن أفعل ذلك بشكل مختلف." (لوم). "أنا أعتذر، لقد ارتكبت خطأ. كيف يمكنني إصلاحه؟" (مسؤولية).
مواجهة خلاف "هذا رأي سخيف." (هجوم مضاد). "أنا أرى الأمر بشكل مختلف. دعنا نتحدث عن ذلك." (حوار).

خاتمة: تكلفة الجدران العالية

السلوك الدفاعي هو آلية بقاء نفسية طبيعية ومفهومة. كلنا نلجأ إليها. لكن عندما يصبح هو استجابتنا الافتراضية، فإن الجدران التي نبنيها لحماية أنفسنا تصبح هي سجننا. إنها تمنعنا من التعلم من أخطائنا، وتدمر الثقة في علاقاتنا، وتعيق نمونا الشخصي والمهني.

إن التغلب على السلوك الدفاعي لا يعني أن نصبح بلا حماية، بل يعني أن نطور نوعًا مختلفًا من القوة: القوة التي تأتي من الثقة بالنفس والقدرة على تقبل النقد، والاعتراف بالخطأ، والنظر إلى الخلافات كفرص للتعلم بدلاً من كونها معارك يجب الفوز بها. إنها دعوة للتوقف عن بناء الجدران والبدء في بناء الجسور.

الأسئلة الشائعة (FAQ)

هل السلوك الدفاعي علامة على الضعف؟

ليس بالضرورة. إنه آلية حماية إنسانية عالمية. ومع ذلك، فإن الاعتماد المفرط عليه غالبًا ما يكون علامة على انعدام الأمن أو تدني احترام الذات. الشخص الواثق حقًا لا يشعر بالحاجة إلى الدفاع عن نفسه باستمرار.

ما الفرق بين السلوك الدفاعي ووضع الحدود الصحية؟

هذا تمييز حاسم. وضع الحدود هو استجابة استباقية وهادئة لحماية نفسك ("أنا لست مرتاحًا للحديث عن هذا الموضوع الآن"). أما السلوك الدفاعي، فهو رد فعل عاطفي على تهديد متصور ("لماذا تسألني دائمًا هذه الأسئلة الشخصية؟"). الأول يبني الاحترام، والثاني يخلق الصراع.

كيف أتعامل مع شخص يتصرف بشكل دفاعي؟

حاول أن تكون متعاطفًا وتفهم أن سلوكه نابع من شعوره بالتهديد. استخدم عبارات "أنا" بدلاً من "أنت" ("أنا أشعر بالقلق عندما..." بدلاً من "أنت دائمًا تفعل..."). ركز على السلوك وليس على الشخص. وأحيانًا، من الأفضل الانسحاب من المحادثة وتركها لوقت يكون فيه الشخص أكثر هدوءًا وتقبلاً.

هل يمكن أن يكون السلوك الدفاعي مفيدًا في بعض الأحيان؟

نعم. في المواقف التي تتعرض فيها لهجوم غير عادل أو تلاعب، يمكن أن يكون الرد الدفاعي الحازم ضروريًا لحماية نفسك. المشكلة ليست في وجود السلوك الدفاعي، بل في استخدامه بشكل تلقائي في المواقف التي يكون فيها الانفتاح والتقبل أكثر فائدة.

Ahmed Magdy
Ahmed Magdy
مرحبًا، أنا أحمد مجدي، باحث حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع. أجمع بين خبرتي الأكاديمية وشغفي بالتدوين وتبسيط المعرفة، وأوظف الأدوات الرقمية والبحث العلمي لتقديم محتوى عميق وميسر في القضايا الاجتماعية والمجالات التقنية.
تعليقات