عندما تهتز الأرض، أو تجتاح الفيضانات مدينة، أو تدوي صفارات الإنذار، ترسم شاشات السينما صورة واحدة: الفوضى. حشود تصرخ، تتدافع بأنانية، وتدوس على بعضها البعض في حالة من الذعر الأعمى. إنها صورة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، حيث تنهار الحضارة في لحظات ويعود كل فرد إلى غريزة البقاء الوحشية. لكن ماذا لو كانت هذه الصورة الدرامية هي أكبر كذبة عن الطبيعة البشرية؟
هذا المقال هو غوص في علم اجتماع الكوارث، لاستكشاف سلوك الطوارئ والكوارث ليس كما تصوره هوليوود، بل كما تكشفه عقود من الأبحاث الميدانية. سنكتشف أن الكارثة، في معظم الأحيان، لا تكشف عن وحشيتنا، بل عن إنسانيتنا العميقة وقوة روابطنا الاجتماعية.
أسطورة الذعر الجماعي: تفكيك الفكرة الأكثر شيوعًا
أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نفكك الأسطورة الأكبر: أسطورة الذعر الجماعي. من منظور علم السلوك، "الذعر" ليس مجرد خوف شديد. إنه سلوك فردي، غير عقلاني، ومدمر للذات، حيث يفقد الشخص القدرة على التفكير المنطقي ويهرب بشكل محموم دون اعتبار لسلامته أو سلامة الآخرين. الأبحاث التي أجريت على كوارث حقيقية، من هجمات 11 سبتمبر إلى إعصار كاترينا، تظهر أن الذعر الحقيقي نادر للغاية.
ما نراه ونفسره على أنه "ذعر" هو في الواقع "إخلاء عاجل ومنطقي". الناس يركضون، نعم، لكنهم يركضون بعيدًا عن الخطر، وغالبًا ما يساعدون أفراد أسرهم وأصدقائهم وحتى الغرباء على طول الطريق. السلوك ليس أنانيًا، بل هو موجه نحو البقاء الجماعي.
إذن، ماذا يحدث حقًا؟ السلوك الاجتماعي الحقيقي في مواجهة الكارثة
بدلاً من الفوضى، يلاحظ علماء الاجتماع ظهور أنماط سلوكية متكررة ومدهشة في معظم الكوارث.
1. السلوك الاجتماعي الإيجابي وظهور "المجتمع العلاجي"
هذا هو السلوك الأكثر شيوعًا. بدلاً من التنافس، ينخرط الناس في مساعدة متبادلة واسعة النطاق. الجيران ينقذون بعضهم البعض من تحت الأنقاض، والغرباء يتقاسمون الموارد الشحيحة، والناس يشكلون سلاسل بشرية لإنقاذ العالقين. الكارثة غالبًا ما تزيل الحواجز الاجتماعية المؤقتة (الطبقة، العرق، الدين) وتخلق شعورًا قويًا بالهوية المشتركة والمصير الواحد.
في أعقاب الكارثة مباشرة، غالبًا ما تنشأ مجموعات غير رسمية وعفوية من الناجين. يُطلق على هذه الظاهرة اسم "المجتمع العلاجي". في هذا المجتمع المؤقت، يشعر الناس بتضامن هائل، ويعملون معًا بلا كلل في جهود الإنقاذ والتعافي. هذه التجربة الجماعية يمكن أن تكون شافية نفسيًا، حيث يجد الناس القوة والدعم في العمل المشترك.
2. سلوك التقارب (Convergence Behavior)
بشكل مثير للدهشة، لا يهرب الجميع من موقع الكارثة. هناك حركة تقارب هائلة نحو المنطقة المنكوبة. يمكن تصنيف هؤلاء "المتقاربين" إلى عدة فئات:
- العائدون: السكان المحليون الذين كانوا بعيدين ويحاولون العودة للاطمئنان على منازلهم وأحبائهم.
- المساعدون: متطوعون عفويون يأتون لتقديم المساعدة.
- الفضوليون: أشخاص يأتون لمجرد المشاهدة.
- المستغلون: أقلية صغيرة جدًا تأتي بنية النهب أو الاستغلال.
هذا التقارب يمكن أن يكون مفيدًا (المساعدون) ولكنه يمكن أيضًا أن يعيق جهود الاستجابة الرسمية.
3. ظهور المعايير والأدوار الجديدة
الكوارث تخلق فراغًا اجتماعيًا. المعايير الاجتماعية والعادات الاجتماعية اليومية تنهار. في هذا الفراغ، تنشأ "معايير طارئة" جديدة. يصبح تقاسم الموارد هو القاعدة، وليس الاستثناء. كما تظهر أدوار جديدة: المحاسب يصبح قائد فريق إنقاذ، والممرضة المتقاعدة تدير مركز إسعافات أولية مؤقت. يتجاوز الناس أدوارهم الرسمية ويتصرفون بناءً على الحاجة الماسة.
| الجانب | أسطورة هوليوود | الواقع السوسيولوجي |
|---|---|---|
| السلوك السائد | الذعر الجماعي، الأنانية، الفوضى. | السلوك الاجتماعي الإيجابي، التعاون، الهدوء النسبي. |
| البنية الاجتماعية | انهيار كامل للمجتمع ("حرب الكل ضد الكل"). | ظهور بنى اجتماعية جديدة ومؤقتة (المجتمع العلاجي). |
| الدور الرئيسي للجمهور | ضحايا سلبيون ينتظرون الإنقاذ. | مستجيبون أوائل نشطون ينقذون الأرواح. |
| الدافع الأساسي | غريزة البقاء الفردية. | الحاجة إلى الانتماء والتضامن الجماعي. |
خاتمة: الثقة في الإنسانية وقت الشدة
إن فهم السلوك الحقيقي في الطوارئ والكوارث ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل له آثار عملية هائلة على كيفية تخطيطنا للكوارث والاستجابة لها. عندما تفترض السلطات أن الجمهور سيصاب بالذعر، فإنها قد تحجب المعلومات أو تستخدم القوة، مما يؤدي إلى نتائج عكسية ويزعزع الثقة. ولكن عندما تثق السلطات في قدرة الجمهور على الصمود والتعاون، وتعتبرهم شركاء في الاستجابة، فإن النتائج تكون أفضل بكثير.
تكشف لنا الكوارث عن حقيقة عميقة: تحت قشرة الحياة اليومية الرقيقة، تكمن قدرة هائلة على التضامن والتعاون. في أحلك اللحظات، لا نعود إلى حالة الطبيعة الوحشية، بل غالبًا ما نجد أفضل ما في طبيعتنا الاجتماعية.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
إذا كان الذعر نادرًا، فلماذا نرى مشاهد التدافع في بعض الأحيان؟
التدافع غالبًا ما يكون نتيجة لعوامل فيزيائية وليس نفسية. يمكن أن يحدث في الأماكن الضيقة ذات المخارج المحدودة، حيث يؤدي الضغط المادي من الخلف إلى سقوط الناس. إنه مشكلة في تصميم المكان وديناميكيات الحشود، وليس بالضرورة ذعرًا فرديًا.
ماذا عن أعمال النهب والجرائم أثناء الكوارث؟
نعم، يمكن أن تحدث، لكنها استثناء وليست القاعدة. غالبًا ما يتم تضخيمها بشكل كبير من قبل وسائل الإعلام. الأبحاث تظهر أن معدلات الجريمة في العديد من المناطق المتضررة من الكوارث تنخفض فعليًا في الفترة التي تليها مباشرة بسبب زيادة التضامن الاجتماعي والمراقبة غير الرسمية.
ما هو أهم شيء يمكن أن تفعله السلطات لمساعدة الجمهور في أزمة؟
توفير معلومات واضحة ودقيقة وموثوقة وفي الوقت المناسب. الجمهور قادر على اتخاذ قرارات عقلانية إذا كان لديه المعلومات الصحيحة. الثقة والتواصل هما أهم أداتين لإدارة الأزمات بفعالية.
كيف يمكنني الاستعداد بشكل أفضل لأزمة بناءً على هذه المعلومات؟
بالإضافة إلى الاستعدادات المادية (مثل حقيبة الطوارئ)، ركز على الاستعداد الاجتماعي. تعرف على جيرانك. كن جزءًا من شبكة مجتمعية. كلما كانت الروابط الاجتماعية في مجتمعك أقوى في الأوقات العادية، كان هذا المجتمع أكثر صمودًا وقدرة على التعاون عند وقوع كارثة.
