📊 آخر التحليلات

سلوك الجمهور في الأزمات: لماذا لا نصاب بالذعر كما تظن هوليوود؟

مجموعة من الناس يساعدون بعضهم البعض وسط أنقاض رمزية، يوضحون السلوك التعاوني للجمهور في الأزمات والكوارث.

عندما تدوي صفارات الإنذار أو تهتز الأرض تحت أقدامنا، ما هي الصورة التي تقفز إلى أذهاننا؟ بالنسبة للكثيرين، هي صورة مستوحاة من أفلام هوليوود: حشود تصرخ، تتدافع بشكل أناني، وتدوس على بعضها البعض في حالة من الذعر الأعمى. إنها صورة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، حيث تنهار الحضارة في لحظات ويعود كل فرد إلى غريزة البقاء الوحشية. لكن هل هذه الصورة دقيقة؟

الإجابة التي يقدمها علم اجتماع الكوارث، بعد عقود من دراسة الزلازل والفيضانات والهجمات الإرهابية، هي "لا" مدوية. هذا المقال هو رحلة لتصحيح هذا المفهوم الخاطئ. سنستكشف سلوك الجمهور في الأزمات والكوارث ليس كما تصوره السينما، بل كما تكشفه الأبحاث العلمية: ظاهرة معقدة يظهر فيها أفضل ما في الإنسانية، وليس أسوأه.

أسطورة الذعر الجماعي: تفكيك الفكرة الأكثر شيوعًا

أولاً، يجب أن نفهم ما هو "الذعر" من منظور علمي. الذعر ليس مجرد خوف شديد، بل هو سلوك فردي وغير عقلاني ومدمر للذات، حيث يفقد الشخص القدرة على التفكير المنطقي ويهرب بشكل محموم دون اعتبار لسلامته أو سلامة الآخرين. الأبحاث تظهر أن الذعر الحقيقي نادر للغاية في الكوارث.

ما نراه ونفسره على أنه "ذعر" هو في الواقع "إخلاء عاجل ومنطقي". الناس يركضون، نعم، لكنهم يركضون بعيدًا عن الخطر، وغالبًا ما يساعدون أفراد أسرهم وأصدقائهم وحتى الغرباء على طول الطريق. السلوك ليس أنانيًا، بل هو موجه نحو البقاء الجماعي.

إذن، ماذا يحدث حقًا؟ السلوكيات الحقيقية في مواجهة الكارثة

بدلاً من الفوضى، يلاحظ علماء الاجتماع ظهور أنماط سلوكية متكررة ومدهشة في معظم الكوارث.

1. السلوك الاجتماعي الإيجابي (Prosocial Behavior)

هذا هو السلوك الأكثر شيوعًا. بدلاً من التنافس، ينخرط الناس في مساعدة متبادلة واسعة النطاق. الجيران ينقذون بعضهم البعض من تحت الأنقاض، والغرباء يتقاسمون الموارد الشحيحة، والناس يشكلون سلاسل بشرية لإنقاذ العالقين. الكارثة غالبًا ما تزيل الحواجز الاجتماعية المؤقتة (الطبقة، العرق، الدين) وتخلق شعورًا قويًا بالهوية المشتركة والمصير الواحد.

2. ظهور "المجتمع العلاجي" (The Therapeutic Community)

في أعقاب الكارثة مباشرة، غالبًا ما تنشأ مجموعات غير رسمية وعفوية من الناجين. يُطلق على هذه الظاهرة اسم "المجتمع العلاجي". في هذا المجتمع المؤقت، يشعر الناس بتضامن هائل، ويعملون معًا بلا كلل في جهود الإنقاذ والتعافي. هذه التجربة الجماعية يمكن أن تكون شافية نفسيًا، حيث يجد الناس القوة والدعم في العمل المشترك.

3. البحث المحموم عن المعلومات

في حالة عدم اليقين الشديد، يصبح الناس متعطشين للمعلومات. يريدون أن يعرفوا ما حدث، وما هي المخاطر الحالية، وأين أحباؤهم. إذا فشلت المصادر الرسمية في توفير معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب، ينشأ "فراغ معلوماتي" تملؤه الشائعات والمعلومات المضللة بسرعة. هذا الفراغ يؤثر بشكل مباشر على كيفية تشكل الرأي العام حول الأزمة، ويمكن أن يعقد جهود الاستجابة.

لماذا نتصرف بهذه الطريقة؟ تفسيرات سوسيولوجية

هذا السلوك التعاوني ليس مجرد صدفة سعيدة، بل هو نتاج آليات اجتماعية ونفسية قوية.

  • نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory): في الأوقات العادية، نُعرّف أنفسنا من خلال هويات متعددة (أنا مهندس، أنا من المدينة الفلانية). في الكارثة، تظهر هوية اجتماعية جديدة ومهيمنة: "نحن الناجون". هذه الهوية المشتركة تجعلنا نرى الآخرين كجزء من "مجموعتنا الداخلية"، مما يعزز التعاطف والتعاون ويقلل من الأنانية.
  • نظرية المعيار الطارئ (Emergent Norm Theory): الكوارث هي مواقف غير مألوفة تنهار فيها المعايير الاجتماعية المعتادة. في هذا الفراغ، يبحث الناس عن إشارات حول كيفية التصرف. إذا بدأ الأفراد الأوائل في مساعدة الآخرين، فإن هذا السلوك يصبح بسرعة "المعيار الطارئ" الجديد الذي يتبعه الجميع.
سلوك الجمهور في الأزمات: الأسطورة مقابل الواقع
الجانب أسطورة هوليوود الواقع السوسيولوجي
السلوك السائد الذعر الجماعي، الأنانية، الفوضى. السلوك الاجتماعي الإيجابي، التعاون، الهدوء النسبي.
البنية الاجتماعية انهيار كامل للمجتمع ("حرب الكل ضد الكل"). ظهور بنى اجتماعية جديدة ومؤقتة (المجتمع العلاجي).
الدور الرئيسي للجمهور ضحايا سلبيون ينتظرون الإنقاذ. مستجيبون أوائل نشطون ينقذون الأرواح.
الدافع الأساسي غريزة البقاء الفردية. الحاجة إلى الانتماء والتضامن الجماعي.

خاتمة: الثقة في الإنسانية وقت الشدة

إن فهم السلوك الحقيقي للجمهور في الأزمات ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل له آثار عملية هائلة على كيفية تخطيطنا للكوارث والاستجابة لها. عندما تفترض السلطات أن الجمهور سيصاب بالذعر، فإنها قد تحجب المعلومات أو تستخدم القوة، مما يؤدي إلى نتائج عكسية ويزعزع الثقة. ولكن عندما تثق السلطات في قدرة الجمهور على الصمود والتعاون، وتعتبرهم شركاء في الاستجابة، فإن النتائج تكون أفضل بكثير.

تكشف لنا الكوارث عن حقيقة عميقة: تحت قشرة الحياة اليومية الرقيقة، تكمن قدرة هائلة على التضامن والتعاون. في أحلك اللحظات، لا نعود إلى حالة الطبيعة الوحشية، بل غالبًا ما نجد أفضل ما في طبيعتنا الاجتماعية.

الأسئلة الشائعة (FAQ)

إذا كان الذعر نادرًا، فلماذا نرى مشاهد التدافع في بعض الأحيان؟

التدافع غالبًا ما يكون نتيجة لعوامل فيزيائية وليس نفسية. يمكن أن يحدث في الأماكن الضيقة ذات المخارج المحدودة، حيث يؤدي الضغط المادي من الخلف إلى سقوط الناس. إنه مشكلة في تصميم المكان وديناميكيات الحشود، وليس بالضرورة ذعرًا فرديًا.

هل تحدث أعمال النهب والجرائم أثناء الكوارث؟

نعم، يمكن أن تحدث، لكنها استثناء وليست القاعدة. غالبًا ما يتم تضخيمها بشكل كبير من قبل وسائل الإعلام. الأبحاث تظهر أن معدلات الجريمة في العديد من المناطق المتضررة من الكوارث تنخفض فعليًا في الفترة التي تليها مباشرة بسبب زيادة التضامن الاجتماعي والمراقبة غير الرسمية.

ما هو أهم شيء يمكن أن تفعله السلطات لمساعدة الجمهور في أزمة؟

توفير معلومات واضحة ودقيقة وموثوقة وفي الوقت المناسب. الجمهور قادر على اتخاذ قرارات عقلانية إذا كان لديه المعلومات الصحيحة. الثقة والتواصل هما أهم أداتين لإدارة الأزمات بفعالية.

كيف يمكنني الاستعداد بشكل أفضل لأزمة بناءً على هذه المعلومات؟

بالإضافة إلى الاستعدادات المادية (مثل حقيبة الطوارئ)، ركز على الاستعداد الاجتماعي. تعرف على جيرانك. كن جزءًا من شبكة مجتمعية. كلما كانت الروابط الاجتماعية في مجتمعك أقوى في الأوقات العادية، كان هذا المجتمع أكثر صمودًا وقدرة على التعاون عند وقوع كارثة.

Ahmed Magdy
Ahmed Magdy
مرحبًا، أنا أحمد مجدي، باحث حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع. أجمع بين خبرتي الأكاديمية وشغفي بالتدوين وتبسيط المعرفة، وأوظف الأدوات الرقمية والبحث العلمي لتقديم محتوى عميق وميسر في القضايا الاجتماعية والمجالات التقنية.
تعليقات