مقدمة: ما وراء الأرقام والإحصائيات
كم عدد الأسر في بلدك؟ ما هو متوسط عدد الأطفال؟ كم نسبة الطلاق؟ هذه أسئلة مهمة تجيب عليها الإحصاءات والأرقام. لكن هناك أسئلة أعمق لا يمكن للأرقام وحدها أن تجيب عليها: لماذا قرر هذان الزوجان الطلاق الآن بالذات؟ كيف يتم التفاوض على السلطة بصمت على طاولة العشاء؟ ما معنى أن تكون "أبًا صالحًا" في هذه الثقافة المحددة؟ للإجابة على هذه الأسئلة، نحتاج إلى أداة مختلفة، أداة تسمح لنا بالذهاب إلى ما وراء السطح. هذه الأداة هي التحليل الكيفي للعلاقات الأسرية (Qualitative Analysis of Family Relations).
كباحثين كيفيين، مهمتنا ليست العد، بل الفهم. نحن لا نسعى لتعميم النتائج على مجتمع بأكمله، بل نسعى للحصول على "وصف كثيف" وغني بالتفاصيل للتجربة المعاشة داخل عدد قليل من الأسر. في هذا المقال، سنفتح حقيبة أدواتنا المنهجية، ونكشف عن كيفية استخدامنا للمقابلات والملاحظة ودراسات الحالة لقراءة ما بين سطور الحياة الأسرية وفهم عالم المعاني الخفي الذي يحكمها.
التحليل الكيفي مقابل التحليل الكمي: عدسة مختلفة تمامًا
لفهم التحليل الكيفي، من المفيد مقارنته بنقيضه، التحليل الكمي. إنهما ليسا أفضل أو أسوأ من بعضهما، بل هما يطرحان أنواعًا مختلفة من الأسئلة ويسعيان لأنواع مختلفة من المعرفة.
| الجانب | التحليل الكيفي (Qualitative) | التحليل الكمي (Quantitative) |
|---|---|---|
| الهدف الأساسي | فهم المعنى والسياق والعمق. | قياس الانتشار وتحديد العلاقات السببية والتعميم. |
| نوع البيانات | كلمات، قصص، صور، ملاحظات (بيانات غنية). | أرقام، إحصاءات، نسب مئوية (بيانات رقمية). |
| السؤال الرئيسي | "كيف؟" و "لماذا؟" | "كم؟" و "ما مدى؟" |
| حجم العينة | صغير (عدد قليل من الأسر أو الأفراد). | كبير (مئات أو آلاف المشاركين). |
أدوات الباحث الكيفي: كيف ندرس الأسرة عن قرب؟
لدراسة العالم الداخلي للأسرة، نستخدم مجموعة من الأدوات التي تسمح لنا بالاقتراب من التجربة الحية لأفرادها.
1. المقابلات المعمقة (In-depth Interviews)
هذه ليست استبيانات شفهية. المقابلة المعمقة هي حوار موجه ومفتوح، يهدف إلى تشجيع المشارك على سرد قصته بكلماته الخاصة. بدلاً من أن نسأل "هل تساعد في الأعمال المنزلية؟"، نسأل "صف لي يومًا عاديًا في منزلك، من الصباح حتى المساء". هذا يسمح لنا بفهم ليس فقط *ماذا* يحدث، بل *كيف* يشعر الناس تجاهه وما المعنى الذي يضفونه عليه. إنها أداة قوية لفهم الهوية الجمعية للأسرة من خلال السرديات التي يرويها أفرادها.
2. الملاحظة بالمشاركة (Participant Observation)
في بعض الأحيان، ما يقوله الناس وما يفعلونه شيئان مختلفان. الملاحظة بالمشاركة تتضمن قضاء وقت طويل مع الأسرة في بيئتها الطبيعية، ومراقبة تفاعلاتها اليومية. من خلال هذه الأداة، يمكننا أن نرى الممارسات الرمزية وهي تحدث بشكل مباشر: من يجلس أين، من يقاطع من، كيف يتم تهدئة طفل يبكي. إنها تكشف عن القواعد غير المكتوبة التي تحكم البنية الميكروية للأسرة.
3. دراسة الحالة (Case Study)
تركز دراسة الحالة على تحليل أسرة واحدة (أو عدد قليل جدًا من الأسر) بشكل مكثف وعميق، باستخدام أدوات متعددة (مقابلات، ملاحظة، تحليل وثائق). الهدف ليس التعميم، بل الحصول على فهم شامل وكلي لهذه الحالة المحددة. يمكن لدراسة حالة واحدة لأسرة مهاجرة، على سبيل المثال، أن تكشف عن تعقيدات الهوية والتكيف أكثر من أي مسح إحصائي واسع النطاق.
لماذا نحتاج التحليل الكيفي؟ ما الذي يكشفه؟
قد يبدو التحليل الكيفي أقل "علمية" للوهلة الأولى لأنه لا ينتج أرقامًا قاطعة. لكن قيمته تكمن في قدرته على كشف جوانب من الواقع الاجتماعي لا يمكن الوصول إليها بطرق أخرى:
- فهم وجهة نظر الفاعل: يسمح لنا برؤية العالم من خلال عيون المشاركين أنفسهم، وفهم منطقهم الخاص.
- كشف العمليات الاجتماعية: يوضح لنا "كيف" تحدث الأمور (كيف يتم اتخاذ قرار، كيف يتطور صراع) وليس فقط النتيجة النهائية.
- إعطاء صوت للمهمشين: غالبًا ما تركز الدراسات الكمية على المتوسطات، بينما يمكن للدراسات الكيفية أن تسلط الضوء على تجارب الأقليات أو المجموعات التي لا يتناسب واقعها مع مربعات الاستبيان.
خاتمة: من الخريطة إلى الجولة الميدانية
يمكن تشبيه التحليل الكمي بالنظر إلى خريطة مدينة. إنها تمنحك رؤية واسعة ودقيقة للتخطيط العام والشوارع الرئيسية. أما التحليل الكيفي، فهو بمثابة القيام بجولة ميدانية مع مرشد محلي يأخذك في الأزقة الخلفية، ويشرح لك تاريخ المباني، ويعرفك على أصحاب المتاجر. كلاهما ضروري للحصول على صورة كاملة. بدون الأرقام، نفتقر إلى النطاق، ولكن بدون القصص والمعاني، نفتقر إلى الروح. التحليل الكيفي هو ما يسمح لنا بفهم روح الأسرة، ذلك النسيج المعقد من الحب والصراع والذاكرة الذي يجعل كل أسرة عالمًا فريدًا بحد ذاته.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
ألا يعتبر التحليل الكيفي ذاتيًا وغير علمي؟
هذا نقد شائع. صحيح أن الباحث هو الأداة الرئيسية في جمع البيانات، مما يدخل عنصر الذاتية. لكن البحث الكيفي الجيد يتبع بروتوكولات صارمة لضمان الموثوقية، مثل "التثليث" (استخدام مصادر بيانات متعددة)، ومراجعة الأقران، والشفافية الكاملة في وصف المنهجية. الهدف ليس الموضوعية المطلقة (التي قد تكون مستحيلة في دراسة البشر)، بل هو "الصدق" والعمق في تمثيل تجربة المشاركين.
كيف يختار الباحثون الأسر التي يدرسونها؟
على عكس البحث الكمي الذي يتطلب عينات عشوائية كبيرة، يستخدم البحث الكيفي غالبًا "أخذ العينات الهادف" (Purposive Sampling). يختار الباحثون حالات معينة يُعتقد أنها غنية بالمعلومات وستوفر فهمًا عميقًا للظاهرة المدروسة. كما أن الوصول إلى الأسر يتطلب بناء الثقة والحصول على موافقة مستنيرة، مع الالتزام الصارم بأخلاقيات البحث لضمان سرية وسلامة المشاركين.
ما الفرق بين التحليل الكيفي والعلاج الأسري؟
الفرق يكمن في الهدف. هدف الباحث الكيفي هو الفهم والتحليل وإنتاج المعرفة عن الأسرة كظاهرة اجتماعية. أما هدف المعالج الأسري فهو التدخل والمساعدة وتغيير الديناميكيات الأسرية لتحسين حياة أفرادها. الباحث يراقب ويحلل، بينما المعالج يشارك ويساعد. الأدوات قد تتشابه (مثل الاستماع العميق)، لكن الغاية مختلفة تمامًا.
