تفتح هاتفك، فتجد ألف مسار مهني محتمل، ومئات الوجهات للسفر، وعددًا لا نهائيًا من أنماط الحياة التي يمكنك تبنيها. تبدو الحرية مطلقة، لكن بدلاً من الشعور بالبهجة، يتسلل إليك شعور بالشلل والضياع. "ماذا لو اخترت المسار الخطأ؟"، "ماذا لو لم أكن جيدًا بما فيه الكفاية؟"، "ما هو معنى كل هذا؟". هذا ليس مجرد قلق عادي، بل هو شعور أعمق وأكثر إرباكًا: إنه القلق الوجودي عند الشباب.
هذا القلق ليس ضعفًا شخصيًا أو "دراما" جيل جديد، بل هو استجابة حساسة وعميقة لطبيعة العالم الذي ورثوه. من منظور علم الاجتماع، هذا القلق هو "الحمى" التي تشير إلى مرض اجتماعي أعمق: انهيار الهياكل التي كانت تمنح الحياة معنى واتجاهًا. هذا المقال هو محاولة لتشخيص هذا المرض، لفهم لماذا يشعر جيل يمتلك حرية غير مسبوقة بأنه الأكثر ضياعًا.
ما هو القلق الوجودي (من منظور اجتماعي)؟
يختلف القلق الوجودي عن القلق السريري. القلق السريري غالبًا ما يكون له محفزات محددة ويمكن علاجه. أما القلق الوجودي، فهو قلق فلسفي يتعلق بالأسئلة الكبرى للحياة: المعنى، الحرية، المسؤولية، والموت. إنه الشعور بالدوار الذي يصيبنا عندما ندرك أننا "محكومون بالحرية" - أي أننا مسؤولون بالكامل عن خلق معنى لحياتنا في عالم لا يقدم لنا أي إجابات جاهزة.
لماذا أصبح هذا الشعور منتشرًا بشكل وبائي بين الشباب اليوم؟ لأن التحولات الاجتماعية المعاصرة قد أزالت كل "حواجز الأمان" الوجودية التي كانت تحمي الأجيال السابقة.
جذور القلق: تشريح الفراغ الذي يعيشه الشباب
إن قلق الشباب ليس نابعًا من فراغ، بل من الفراغ نفسه. فراغ خلفه انهيار أربعة أعمدة رئيسية:
1. انهيار السرديات الكبرى (فراغ المعنى)
كما رأينا في مقال المجتمع ما بعد الحداثة، لقد فقدنا الثقة في القصص الكبرى (الدين، الأمة، التقدم العلمي) التي كانت تقدم إطارًا شاملاً للمعنى. ورث الشباب عالمًا بدون "خريطة" وجودية، وعليهم أن يرسموا خريطتهم الخاصة من الصفر، وهي مهمة مرهقة ومرعبة.
2. طغيان الاختيار (فراغ الاتجاه)
إن صعود الفردانية حول الحرية من نعمة إلى عبء. عندما تكون كل الخيارات متاحة، يصبح كل خيار تتخذه مصحوبًا بقلق "ماذا لو؟". هذا "شلل التحليل" يجعل من الصعب الالتزام بأي مسار (مهني أو عاطفي) خوفًا من أن يكون هناك مسار أفضل لم نكتشفه بعد.
3. سيولة الحياة (فراغ الاستقرار)
كل شيء أصبح مؤقتًا وغير مستقر. الوظائف، العلاقات، وحتى أماكن السكن. هذه "السيولة" التي وصفها باومان تجعل من المستحيل بناء شعور بالأمان أو التخطيط للمستقبل بثقة. عندما تكون الأرض تحت قدميك تتحرك باستمرار، يصبح من الطبيعي أن تشعر بالدوار والقلق.
4. مسرح الكمال الرقمي (فراغ الأصالة)
يقضي الشباب جزءًا كبيرًا من حياتهم في مجتمعات افتراضية حيث يقارنون "كواليسهم" الفوضوية بـ "واجهة المسرح" المثالية للآخرين. هذا يخلق شعورًا دائمًا بالنقص وعدم الكفاءة، ويجعلهم يشعرون بأنهم الوحيدون الذين لم "يفهموا" قواعد اللعبة بعد.
عندما تجتمع هذه الفراغات الأربعة، فإنها تخلق عاصفة مثالية من القلق الوجودي. وفي الحالات القصوى، عندما يُضاف إلى هذا الفراغ يأس اقتصادي، قد يبدو خيار متطرف مثل الهجرة غير الشرعية للشباب وكأنه الهروب الوحيد الممكن.
| الجانب | المجتمع التقليدي | المجتمع المعاصر (للشباب) |
|---|---|---|
| مصدر الهوية | موروث ومحدد مسبقًا (الأسرة، الجماعة). | مشروع فردي يجب بناؤه من الصفر. |
| مسار الحياة | واضح وخطّي (تعليم -> عمل -> زواج -> تقاعد). | متعرج، غير يقيني، ويتطلب إعادة اختراع مستمر. |
| مصدر المعنى | خارجي ومفروض (الدين، التقاليد). | داخلي ويجب اكتشافه أو خلقه. |
| الخوف الأساسي | العار (عدم الامتثال لمعايير الجماعة). | الضياع (عدم تحقيق الإمكانات أو اتخاذ الخيار الخطأ). |
خاتمة: من القلق إلى الإمكانية
إن القلق الوجودي عند الشباب ليس علامة على جيل ضعيف، بل على جيل يواجه بصدق تعقيدات العالم الحديث. إنه قلق الفيلسوف الذي أُجبر على التساؤل عن كل شيء لأنه لم يعد هناك شيء مسلم به. هذا القلق، رغم ألمه، يحمل في طياته بذور إمكانية هائلة.
إنه يدفع الشباب للبحث عن أشكال جديدة من المعنى، وبناء أنماط حياة جديدة أكثر أصالة، والمطالبة بعالم أكثر عدلاً واستدامة. إن مهمتنا كمجتمع ليست "علاج" قلقهم، بل هي مساعدتهم على تحويله من قوة مشلولة إلى محرك للإبداع والتغيير. ففي قلب هذا القلق، تكمن حرية لم يمتلكها أي جيل من قبل، حرية إعادة اختراع معنى أن تكون إنسانًا في القرن الحادي والعشرين.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل القلق الوجودي هو نفسه الاكتئاب؟
لا. القلق الوجودي هو استجابة فلسفية لظروف الحياة، وهو شعور قد يمر به أي شخص. أما الاكتئاب، فهو حالة طبية لها أعراض محددة وتتطلب غالبًا تدخلاً مهنيًا. ومع ذلك، يمكن للقلق الوجودي المزمن وغير المعالج أن يساهم في تطور حالات الاكتئاب والقلق السريري.
هل هذا القلق يقتصر على الشباب في المجتمعات الغنية؟
بينما قد تكون "أزمة الاختيار" أكثر حدة في المجتمعات الغنية، فإن "أزمة المعنى" و"أزمة اللايقين" هما ظاهرتان عالميتان. في العديد من الدول النامية، يتفاقم القلق الوجودي بسبب اليأس الاقتصادي الحقيقي، مما يجعل الأسئلة حول المستقبل أكثر إلحاحًا وألمًا.
كيف يمكن للشباب التعامل مع هذا القلق؟
ينصح الخبراء بالتركيز على "الالتزامات الصغيرة" بدلاً من البحث عن "المعنى الأكبر" دفعة واحدة. يمكن أن يشمل ذلك بناء علاقات قوية، أو التطوع في قضية محلية، أو إتقان مهارة ما. هذه الأفعال الملموسة تبني شعورًا بالكفاءة والانتماء، وتخلق معنى في الحياة اليومية، مما يقلل من الشعور بالضياع.
ما هو دور الأهل والمجتمع؟
بدلاً من تقديم إجابات جاهزة، يجب على المجتمع توفير "مساحات آمنة" للشباب لاستكشاف هذه الأسئلة. يتضمن ذلك توفير دعم نفسي ميسور التكلفة، وتشجيع الحوار المفتوح حول الصحة العقلية، وخلق فرص حقيقية للمشاركة المدنية والعمل الهادف، بدلاً من مجرد الضغط من أجل النجاح المادي.
