عندما يُطرح مصطلح "المساواة الجندرية" في النقاشات العامة، غالبًا ما يتم استقباله بمشاعر متباينة: حماس من البعض، وتوجس أو سخرية من البعض الآخر. يعتقد الكثيرون خطأً أنها "لعبة صفرية"؛ أي أن مكاسب النساء تعني بالضرورة خسارة للرجال. أو أنها محاولة لمحو الفروق البيولوجية الطبيعية بين البشر. لكن من منظور علم الاجتماع، الصورة مختلفة تمامًا.
إن المساواة الجندرية ليست مجرد قضية "نسوية"، بل هي قضية مجتمعية وإنسانية شاملة. إنها تتعلق بإعادة هندسة البنية الاجتماعية لتسمح لكل فرد - بغض النظر عن جنسه - بتحقيق إمكاناته الكاملة دون أن تقيده قوالب نمطية جامدة. هذا المقال هو دعوة لتجاوز "حرب الجنسين" الوهمية، وفهم كيف أن عدم المساواة هو سجن للرجل بقدر ما هو سجن للمرأة، وكيف يمكن للتحرر منه أن يطلق طاقات المجتمع الكامنة.
الجنس مقابل الجندر: فك الاشتباك المفاهيمي
لفهم المساواة، يجب أولاً أن نميز بين مفهومين يخلط بينهما الكثيرون:
- الجنس (Sex): يشير إلى الفروق البيولوجية والفسيولوجية (الكروموسومات، الهرمونات، الأعضاء التناسلية) التي تميز الذكر عن الأنثى. هذه فروق طبيعية وثابتة نسبيًا.
- الجندر (Gender) أو النوع الاجتماعي: يشير إلى الأدوار، والسلوكيات، والأنشطة، والصفات التي يرى المجتمع أنها مناسبة للرجال أو النساء. الجندر هو "بناء اجتماعي"؛ أي أنه شيء نتعلمه ونكتسبه من خلال التنشئة الاجتماعية، وهو يتغير بتغير الزمن والمكان.
المساواة الجندرية لا تعني أن الرجال والنساء "متطابقون" بيولوجيًا، بل تعني أن حقوقهم ومسؤولياتهم وفرصهم لا يجب أن تعتمد على ما إذا كانوا قد ولدوا ذكورًا أو إناثًا.
جذور اللامساواة: كيف يُصنع التمييز؟
اللامساواة ليست "طبيعة بشرية"، بل هي نتاج أنظمة اجتماعية معقدة تعمل على مستويات متعددة:
1. التنشئة الاجتماعية (برمجة العقول)
منذ اللحظة التي يولد فيها الطفل، يبدأ المجتمع في "قولبته". الأولاد يُعلمون أن يكونوا أقوياء، لا يبكون، ومسيطرين. البنات يُعلمن أن يكن لطيفات، مطيعات، ومهتمات بالرعاية. هذه "البرمجة المبكرة" تحد من خيارات كلا الجنسين وتخلق توقعات تلازمهم مدى الحياة.
2. الهياكل المؤسسية (السقف الزجاجي)
تم تصميم معظم مؤسساتنا (العمل، السياسة) في عصر كان فيه الرجال هم الفاعلون الوحيدون في المجال العام. نتيجة لذلك، لا تزال هذه المؤسسات تحمل تحيزات خفية تعيق تقدم النساء. هذا ما يُعرف بـ "السقف الزجاجي" (حواجز غير مرئية تمنع النساء من الوصول للقمة). وكما رأينا في تحليلنا لـ قضايا المرأة في المجتمعات العربية، فإن هذه الحواجز تكون أحيانًا مدعومة بقوانين أو أعراف ثقافية صلبة.
3. تقسيم العمل (العبء المزدوج)
تتحمل النساء عالميًا العبء الأكبر من "العمل غير المدفوع" (رعاية الأطفال، الطبخ، التنظيف). هذا العمل ضروري لاستمرار المجتمع، لكنه لا يُقدر اقتصاديًا ويستنزف وقت المرأة وطاقتها، مما يحد من قدرتها على المنافسة في سوق العمل أو المشاركة في الحياة العامة.
لماذا المساواة مصلحة للجميع؟ (بما في ذلك الرجال)
هنا تكمن النقطة الجوهرية التي يغفلها الكثيرون: النظام الأبوي (Patriarchy) الذي يظلم النساء، يفرض أيضًا تكلفة باهظة على الرجال.
- تحرير الرجال من "صندوق الرجولة": تفرض القوالب النمطية على الرجل أن يكون دائمًا قويًا، معيلًا، ولا يظهر مشاعره. هذا الضغط يساهم في ارتفاع معدلات الانتحار، والاكتئاب، وأمراض القلب بين الرجال. المساواة تحرر الرجل من عبء كونه "المعيل الوحيد" وتسمح له بالتعبير عن مشاعره وممارسة دوره كأب بشكل أعمق.
- الازدهار الاقتصادي: المجتمعات التي تدمج النساء في القوى العاملة وتسمح لهن بالقيادة تشهد نموًا اقتصاديًا أسرع وابتكارًا أكبر. تعطيل نصف المجتمع هو ببساطة سوء إدارة للموارد البشرية.
- علاقات صحية: العلاقات القائمة على الشراكة والاحترام المتبادل (بين المتساوين) تكون أكثر استقرارًا وسعادة من العلاقات القائمة على التبعية والسيطرة.
| الجانب | المجتمع التمييزي (الأبوي) | مجتمع المساواة الجندرية |
|---|---|---|
| توزيع السلطة | هرمي، يتركز بيد الرجال. | تشاركي، يعتمد على الكفاءة لا الجنس. |
| الأدوار الاجتماعية | جامدة ومحددة مسبقًا (رجل/عام، امرأة/خاص). | مرنة وقابلة للتبادل حسب الرغبة والقدرة. |
| التعبير العاطفي | مكبوث للرجال (ضعف)، مسموح للنساء. | صحي ومقبول للجميع. |
| النتيجة الاقتصادية | هدر للطاقات البشرية. | تعظيم الاستفادة من جميع المواهب. |
خاتمة: رحلة نحو الإنسانية الكاملة
المساواة الجندرية ليست مشروعًا لتشابه النساء بالرجال، ولا هي محاولة لإنكار البيولوجيا. إنها مشروع أخلاقي واجتماعي يهدف إلى توسيع دائرة "الممكن" لكل إنسان. إنها تعني أن طفلة تحلم بأن تكون رائدة فضاء، وطفلًا يحلم بأن يكون فنانًا، يجب ألا يواجها حواجز لمجرد نوعهم الاجتماعي.
إن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب تفكيك قرون من التحيزات المتراكمة، وإعادة كتابة العقد الاجتماعي ليكون أكثر عدلاً. إنه طريق طويل، لكنه الطريق الوحيد نحو مجتمع صحي، ومزدهر، وإنساني بحق.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل المساواة تعني أن النساء والرجال متماثلون في كل شيء؟
لا. المساواة (Equality) تعني تكافؤ الفرص والحقوق. أما التماثل (Sameness) فهو غير مطلوب ولا واقعي. الهدف هو أن الاختلافات البيولوجية لا يجب أن تترجم إلى اختلافات في القيمة الاجتماعية أو الحقوق القانونية أو الفرص الاقتصادية.
ما الفرق بين "المساواة" و"الإنصاف" (Equity)؟
المساواة تعني إعطاء الجميع نفس الموارد (مثلاً، نفس الحذاء للجميع). الإنصاف يعني إعطاء كل شخص ما يحتاجه للوصول لنفس النتيجة (إعطاء كل شخص حذاءً بمقاسه). نظرًا لأن النساء يواجهن عوائق تاريخية، فإننا نحتاج أحيانًا إلى إجراءات "إنصاف" (مثل الكوتا أو إجازات الأمومة) لتحقيق "المساواة" الحقيقية.
هل تتعارض المساواة الجندرية مع الدين؟
يعتمد ذلك على التفسير. يرى العديد من المفكرين واللاهوتيين الإصلاحيين أن جوهر الأديان هو العدالة والكرامة الإنسانية، وبالتالي فإن المساواة تتوافق مع الروح الحقيقية للدين، حتى لو تعارضت مع بعض التفسيرات التقليدية أو العادات الاجتماعية التي أُلبست لباس الدين.
كيف يمكنني دعم المساواة في حياتي اليومية؟
ابدأ ببيتك: شارك في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال بالتساوي. في عملك: ادعم زميلاتك وتأكد من أن أصواتهن مسموعة. في لغتك: تجنب النكات أو التعليقات التي تعزز الصور النمطية. والأهم، ربِّ أطفالك (ذكورًا وإناثًا) على أن قيمتهم تكمن في إنسانيتهم وشخصيتهم، وليس في امتثالهم لقوالب جندرية جامدة.
