لآلاف السنين، كانت المدينة مقسمة بخطوط غير مرئية. كان "المجال العام" (الأسواق، المقاهي، الساحات السياسية) مسرحًا للرجال، حيث يمارسون السلطة والتجارة والنقاش. بينما كان "المجال الخاص" (المنزل) هو مملكة النساء المحجوبة. كانت القاعدة الضمنية: "الشارع للرجال، والبيت للنساء".
اليوم، عندما تمشي في شوارع أي مدينة حديثة، ترى هذه الخطوط تتلاشى. نساء يقدن الحافلات، ورجال يتنزهون مع أطفالهم في الحدائق، وفتيات يلعبن كرة القدم في الساحات. إن الأدوار الجندرية في المجال العام تمر بعملية إعادة كتابة جذرية. هذا المقال هو استكشاف لهذا التحول المكاني والاجتماعي: كيف تغيرت خريطة الجندر في مدننا؟ وما هي المقاومة التي تواجهها؟ وكيف نعيد تصميم الفضاء العام ليكون ملكًا للجميع؟
انهيار الجدران: كيف اقتحمت المرأة المجال العام؟
لم يكن دخول المرأة المجال العام مجرد "خروج من الباب"، بل كان اقتحامًا لقلعة محصنة بالتقاليد والقوانين. هذا الاقتحام تم عبر ثلاث بوابات رئيسية:
- بوابة العمل: كما ناقشنا في المرأة وسوق العمل، كان العمل هو المبرر الأول والأقوى لوجود المرأة في الشارع. تحولت المرأة من "كائن منزلي" إلى "قوة عاملة" تتنقل وتتفاعل وتنتج في الفضاء العام.
- بوابة الاستهلاك: تحول التسوق من مهمة وظيفية إلى نشاط ترفيهي واجتماعي، مما جعل مراكز التسوق والمقاهي مساحات عامة مقبولة ومتاحة للنساء، وإن كانت لا تزال تحمل طابعًا استهلاكيًا.
- بوابة السياسة والاحتجاج: من خلال المشاركة النسوية في الحركات الاجتماعية، احتلت النساء الميادين والشوارع ليس كمستهلكات أو عاملات، بل كمواطنات يطالبن بحقوقهن، مما كسر هيبة "الشارع الذكوري".
الرجل في المجال العام: هل يتغير الدور أيضًا؟
التركيز غالبًا ما يكون على دخول المرأة، لكن دور الرجل يتغير أيضًا، وإن ببطء:
- الأبوة العلنية: أصبح من المألوف أكثر رؤية آباء يمارسون الرعاية في الأماكن العامة (تغيير حفاضات في المولات، اللعب في الحدائق). هذا يكسر الصورة النمطية للرجل الذي يظهر في الفضاء العام فقط كـ "عامل" أو "متسكع".
- تراجع الهيمنة الذكورية المطلقة: لم يعد الرجال يحتكرون الفضاء العام كليًا. وجود النساء في الشرطة، والجيش، والأمن يغير الديناميكية التقليدية للسلطة في الشارع.
صراع الفضاء: التحرش كأداة للسيطرة
رغم هذا التقدم، لا يزال الفضاء العام ساحة صراع. التحرش الجنسي في الشوارع والمواصلات ليس مجرد "سلوك فردي منحرف"، بل هو أداة هيكلية للحفاظ على الهيمنة الذكورية. إنه رسالة موجهة للمرأة تقول: "أنتِ لستِ في أمان هنا"، "هذا المكان ليس لكِ". مقاومة التحرش هي في جوهرها نضال من أجل الحق في التواجد والتنقل بحرية في المجال العام دون خوف.
| الجانب | الاستخدام التقليدي (الذكوري) | الاستخدام الحديث (المشترك) |
|---|---|---|
| الوقت | متاح في أي وقت (ليلًا ونهارًا). | النساء لا يزلن يقيدن حركتهن ليلاً لأسباب أمنية. |
| الغرض | العمل، الترفيه، التسكع. | العمل، التسوق، الرعاية، ومؤخرًا الترفيه. |
| السلوك | احتلال المساحة (الجلوس بأريحية). | محاولة "الاختفاء" أو عدم لفت الانتباه (لتجنب التحرش). |
| الملكية | شعور بالاستحقاق والسيطرة. | شعور بالتفاوض المستمر على الحق في الوجود. |
خاتمة: نحو مدن للجميع
إن إعادة تعريف الأدوار الجندرية في المجال العام ليست مجرد مسألة تغيير سلوك الأفراد، بل هي مسألة تخطيط عمراني وسياسات عامة. نحن بحاجة إلى "مدن شاملة جندريًا": مدن ذات إضاءة جيدة، ومواصلات آمنة، وأرصفة واسعة لعربات الأطفال، ومراحيض عامة نظيفة وآمنة للجنسين.
عندما يصبح الفضاء العام آمنًا ومرحبًا بالجميع، فإنه يتحول من ساحة للصراع والخوف إلى فضاء للتفاعل، والإبداع، والمواطنة الحقيقية. إن تحرير الشارع هو خطوة أساسية نحو تحرير المجتمع.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
كيف يؤثر التصميم العمراني على الأدوار الجندرية؟
التصميم العمراني ليس محايدًا. المدن التي تعتمد على السيارات وتفتقر للمواصلات العامة والخدمات القريبة تزيد من صعوبة تنقل النساء (اللواتي غالبًا ما لا يملكن سيارات أو يقمن برحلات متعددة للرعاية). التصميم الشامل يسهل حركة الجميع ويعزز المساواة.
ما هو "الفضاء الثالث" وكيف يفيد النساء؟
الفضاء الثالث هو الأماكن العامة غير المنزل (الأول) وغير العمل (الثاني)، مثل المكتبات، والحدائق، والمقاهي المجتمعية. هذه الفضاءات حيوية للنساء لأنها توفر مساحة للتواصل الاجتماعي، والراحة، وبناء الشبكات بعيدًا عن ضغوط المنزل والعمل.
هل يختلف استخدام الفضاء العام بين الثقافات؟
نعم، بشكل كبير. في بعض الثقافات، لا يزال الفصل بين الجنسين في الفضاء العام صارمًا. في ثقافات أخرى، الاختلاط هو القاعدة. لكن حتى في أكثر المجتمعات انفتاحًا، لا تزال هناك فروق دقيقة في كيفية استخدام الرجال والنساء للفضاء والشعور بالأمان فيه.
كيف تساهم التكنولوجيا في تغيير هذه الأدوار؟
تطبيقات النقل التشاركي (مثل أوبر) زادت من حرية حركة النساء وأمانهن نسبيًا. كما أن الهواتف الذكية تسمح للنساء بالبقاء على اتصال وطلب المساعدة، مما يقلل من الخوف المرتبط بالتواجد في الفضاء العام.
