تخيل أنك ولدت في مكتبة ضخمة لا نهائية، حيث كل كتاب يصرخ ليجذب انتباهك، وكل صفحة تتغير في كل ثانية، وبعض الكتب مكتوبة بلغة الحقيقة بينما الأخرى مكتوبة بلغة الخداع، ولا يوجد أمين مكتبة ليرشدك. هذه ليست استعارة بعيدة، بل هي الوصف الأدق للبيئة الإعلامية التي ينمو فيها شباب اليوم. لم يعد الإعلام مجرد "نافذة" نطل منها على العالم، بل أصبح "الجو" الذي نتنفسه، والذي يشكل وعينا بطرق لم نعهدها من قبل.
إن فهم تأثير الإعلام على وعي الشباب يتطلب منا تجاوز فكرة "التأثير" البسيطة (مثل تقليد العنف في الأفلام). من منظور علم الاجتماع، القضية أعمق بكثير: إنها تتعلق بكيفية قيام النظام الإعلامي المعاصر بـ "بناء" واقع الشباب، وتشكيل هوياتهم، وإعادة برمجة بوصلتهم القيمية. هذا المقال هو محاولة لتشريح هذه العملية المعقدة.
التحول الكبير: من "حراس البوابة" إلى "طغيان الخوارزمية"
لفهم جيل اليوم، يجب أن نفهم أنهم أول جيل في التاريخ لم ينشأ في ظل الإعلام التقليدي (التلفزيون، الصحف، الإذاعة). لقد تغير النظام الإعلامي بالكامل:
- في الماضي (إعلام البث): كان هناك عدد قليل من "حراس البوابة" (المحررون، المخرجون) الذين يقررون ما هي الأخبار المهمة وما هي القصص التي تستحق أن تُروى. كان هناك إحساس بوجود "واقع مشترك" يتلقاه الجميع.
- اليوم (الإعلام الرقمي): انهارت هذه البوابات. أصبح بإمكان أي شخص أن يكون ناشرًا. لكن السلطة لم تنتقل إلى "الشعب"، بل انتقلت إلى لاعبين جدد غير مرئيين: "الخوارزميات". خوارزميات فيسبوك، تيك توك، ويوتيوب هي التي تقرر الآن ما نراه وما لا نراه، ليس بناءً على "الأهمية"، بل بناءً على ما سيجعلنا "نتفاعل" ونبقى على المنصة لأطول فترة ممكنة.
هذا التحول الهيكلي له عواقب وخيمة على كيفية تشكل وعي الشباب.
ساحات تشكيل الوعي: كيف يبني الإعلام عالم الشباب؟
1. بناء الواقع: من الحقيقة إلى "الواقع المفرط"
الإعلام لا يعكس الواقع، بل يبنيه. في العصر الرقمي، أصبح هذا البناء أكثر كثافة. يجادل المفكر الفرنسي جان بودريار بأننا نعيش في "واقع مفرط" (Hyperreality)، حيث أصبحت "النسخة" أو "الصورة" أكثر واقعية من الأصل. يختبر الشباب هذا يوميًا:
- الحياة كأداء: حياة المؤثرين الرقميين المنسقة والمثالية على انستغرام ليست انعكاسًا للحياة، بل هي واقع جديد ومصطنع يقارن به الشباب حياتهم الحقيقية، مما يؤدي إلى شعور دائم بالنقص والقلق.
- الأخبار كترفيه: الخوارزميات تفضل الأخبار المثيرة والصادمة والمستقطبة لأنها تولد تفاعلاً أكبر. هذا يشوه تصور الشباب للعالم، ويجعله يبدو أكثر خطورة وفوضوية مما هو عليه في الواقع.
2. بناء الهوية: من الانتماء إلى "العلامة التجارية الشخصية"
لقد أصبح الإعلام الرقمي هو المسرح الرئيسي الذي يتم فيه بناء الهوية الشبابية. لكنها ليست عملية اكتشاف للذات، بل هي عملية بناء "للعلامة التجارية الشخصية". يُشجع الشباب على تسويق أنفسهم، واختيار "المحتوى" الذي يمثلهم، وقياس قيمتهم بعدد المتابعين و"الإعجابات". هذا يحول الهوية من مشروع داخلي إلى أداء خارجي مستمر.
3. بناء القيم: من التقاليد إلى "التريندات"
في الماضي، كانت القيم تُنقل بشكل أساسي عبر الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية. أما اليوم، فقد أصبح الإعلام العالمي منافسًا قويًا. يتعرض الشباب لقيم عالمية قد تتعارض مع قيمهم المحلية، مما يسرّع من ظاهرة تمرد الشباب على القيم التقليدية. الأهم من ذلك، أن "اقتصاد الانتباه" الإعلامي يروج لمجموعة معينة من القيم:
- السرعة والسطحية: المحتوى القصير والمكثف (مثل تيك توك) يكافأ، مما يقلل من قيمة الصبر والتفكير العميق.
- الغضب والاستقطاب: المحتوى الذي يثير الغضب يولد تفاعلاً أكبر، مما يجعل الحوار الهادئ والمتعاطف عملة نادرة.
| الجانب | الإعلام التقليدي (البث) | الإعلام الرقمي (التدفق) |
|---|---|---|
| بناء الواقع | يخلق "واقعًا مشتركًا" موحدًا. | يخلق "حقائق مجزأة" وغرف صدى. |
| بناء الهوية | يقدم نماذج محدودة للامتثال. | يتطلب أداءً مستمرًا للعلامة التجارية الشخصية. |
| بناء القيم | يعزز القيم السائدة في المجتمع (الهيمنة). | يروج لقيم السرعة، التفاعل، والاستقطاب. |
| دور المتلقي | سلبي (مستهلك للمحتوى). | نشط (مستهلك، منتج، وموزع للمحتوى). |
خاتمة: نحو محو الأمية الإعلامية في القرن الحادي والعشرين
إن تأثير الإعلام على وعي الشباب ليس مؤامرة، بل هو نتيجة منطقية لنظام مصمم لجذب انتباهنا بأي ثمن. إنه يضع الشباب في موقف صعب: فهم يمتلكون أدوات قوية للتعبير والمشاركة، لكن هذه الأدوات نفسها مصممة لاستغلال نقاط ضعفهم النفسية وتوجيه سلوكهم. إنهم يسبحون في محيط من المعلومات، لكنهم يموتون عطشًا للحكمة.
الحل لا يكمن في شيطنة التكنولوجيا أو حظرها، بل في تسليح الشباب بأداة أكثر قوة: محو الأمية الإعلامية. يجب أن نعلمهم ليس فقط "كيفية" استخدام هذه الأدوات، بل "لماذا" تم تصميمها بهذه الطريقة، ومن المستفيد من انتباههم، وكيفية التمييز بين المعلومات الموثوقة والتلاعب. إن تعليم الشباب كيفية قراءة "الخريطة" الخفية للعالم الإعلامي هو أهم مهارة بقاء يمكننا أن نقدمها لهم في هذا العصر المعقد.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل كل تأثيرات الإعلام الرقمي على الشباب سلبية؟
لا، على الإطلاق. لقد أتاح الإعلام الرقمي للشباب الوصول إلى المعرفة، والتواصل مع أقرانهم حول العالم، والتعبير عن إبداعهم، وتنظيم حركات اجتماعية قوية. إنه أداة قوية يمكن استخدامها للخير أو للشر. التحليل السوسيولوجي يركز على فهم "النظام" الذي يميل إلى تفضيل الاستخدامات الأكثر إشكالية.
ما هو دور "غرف الصدى" و"فقاعات الترشيح"؟
غرفة الصدى هي بيئة مغلقة (مثل مجموعة فيسبوك) حيث يتم تكرار نفس الآراء وتعزيزها، مما يجعل الأفراد يعتقدون أن وجهة نظرهم هي الوحيدة الصحيحة. فقاعة الترشيح هي نتيجة قيام الخوارزميات بتصفية المحتوى الذي لا يتوافق مع اهتماماتك السابقة. كلاهما يقلل من التعرض لوجهات النظر المختلفة ويزيد من الاستقطاب.
هل يمكن للشباب مقاومة هذا التأثير؟
نعم، وهم يفعلون ذلك. إن السخرية، و"الميمز" النقدية، وثقافة "فك الارتباط" (Disconnecting) هي كلها أشكال من المقاومة. الشباب ليسوا مجرد ضحايا سلبيين، بل هم يتفاوضون باستمرار مع الرسائل الإعلامية ويعيدون تفسيرها. لكن هذه المقاومة تتطلب وعيًا وجهدًا كبيرين.
كيف يمكن للآباء والمربين المساعدة؟
أهم دور هو أن يكونوا قدوة في الاستخدام الواعي للتكنولوجيا. يجب عليهم أيضًا تشجيع الحوار المفتوح مع الشباب حول تجاربهم عبر الإنترنت، وتعليمهم مهارات التفكير النقدي، ومساعدتهم على بناء هوية قوية ومتجذرة في العالم الحقيقي، بحيث لا يصبح العالم الرقمي هو المصدر الوحيد لتقديرهم لذواتهم.
