عندما نتخيل "قائدًا"، ما الصورة التي تقفز إلى أذهاننا تلقائيًا؟ في الغالب، تكون صورة رجل ببدلة رسمية، يتحدث بصوت جهوري، ويصدر الأوامر بحزم. هذه الصورة النمطية، التي رسختها قرون من التاريخ والثقافة، هي الحاجز الأول والأقوى الذي تواجهه النساء في المناصب القيادية. إنهن لا يواجهن فقط تحديات العمل، بل يواجهن تحدي "إعادة تعريف القيادة" نفسها.
هذا المقال هو رحلة تحليلية لاستكشاف واقع القيادة النسائية اليوم. هل وصول المرأة إلى القمة يعني أنها يجب أن تتصرف مثل الرجل؟ أم أنها تجلب معها أسلوبًا جديدًا ومختلفًا؟ وكيف تتغلب على "المتاهة" التي تفصل بينها وبين كرسي القيادة؟
المتاهة وليس السقف الزجاجي: رحلة الوصول الصعبة
استخدمنا سابقًا مصطلح "السقف الزجاجي" لوصف الحاجز النهائي. لكن باحثات مثل أليس إيغلي وليندا كارلي يقترحن مصطلحًا أدق: "المتاهة" (The Labyrinth). رحلة المرأة للقيادة ليست طريقًا مستقيمًا ينتهي بحاجز واحد، بل هي متاهة معقدة من العقبات تبدأ منذ اليوم الأول:
- التحيز في التقييم: غالبًا ما يتم تقييم النساء بناءً على إنجازاتهن السابقة (ما فعلنه)، بينما يتم تقييم الرجال بناءً على إمكاناتهم المستقبلية (ما قد يفعلونه).
- نقص الرعاية (Mentorship): يجد الرجال سهولة أكبر في العثور على "رعاة" (Sponsors) في المناصب العليا يوجهونهم ويدافعون عنهم، بينما تفتقر النساء غالبًا لهذه الشبكات غير الرسمية.
- عقوبة الأمومة: كما ناقشنا في مقال المرأة وسوق العمل، يُنظر إلى الأمومة كعائق أمام الالتزام القيادي، بينما يُنظر للأبوة كعلامة استقرار.
معضلة "الربط المزدوج": كيف تقودين وأنتِ امرأة؟
تواجه القائدات معضلة نفسية واجتماعية قاسية تُعرف بـ "الربط المزدوج" (Double Bind). المجتمع يتوقع من القائد أن يكون حازمًا ومسيطرًا (صفات ذكورية)، ويتوقع من المرأة أن تكون لطيفة ومهتمة بالآخرين (صفات أنثوية). هذا يضع القائدة في مأزق:
- إذا تصرفت بحزم وقوة: تُنتقد بأنها "متسلطة"، "عدوانية"، أو "غير محبوبة".
- إذا تصرفت بلطف وتعاطف: تُنتقد بأنها "ضعيفة"، "عاطفية"، أو "غير مؤهلة للقيادة".
عليها أن تمشي على حبل رفيع جدًا، توازن فيه بين الكفاءة والدفء، وهو عبء إضافي لا يواجهه القادة الرجال.
هل تقود النساء بشكل مختلف؟ القيادة التحويلية
رغم هذه التحديات، تشير الأبحاث إلى أن النساء غالبًا ما يتبنين أسلوب قيادة مختلفًا وفعالًا للغاية، يُعرف بـ "القيادة التحويلية" (Transformational Leadership). يتميز هذا الأسلوب بـ:
- الإلهام والتحفيز: التركيز على بناء رؤية مشتركة وتحفيز الموظفين لتحقيقها، بدلاً من مجرد إصدار الأوامر والمكافآت والعقوبات (القيادة التبادلية).
- التعاطف والاهتمام الفردي: القدرة على الاستماع للموظفين وفهم احتياجاتهم وتطوير مهاراتهم.
- الشمولية والمشاركة: الميل إلى اتخاذ القرارات بشكل جماعي وتشاوري، مما يعزز الشعور بالملكية لدى الفريق.
هذا الأسلوب أثبت فعاليته العالية في العالم المعاصر المعقد والسريع التغير، حيث لم تعد القيادة الهرمية الصارمة هي الحل الأمثل.
| الجانب | القيادة التقليدية (Transactional) | القيادة التحويلية (Transformational) |
|---|---|---|
| التركيز | المهام، القواعد، والهيكل. | الأشخاص، العلاقات، والرؤية. |
| مصدر القوة | المنصب الرسمي والسلطة. | الكاريزما، الثقة، والقدوة. |
| اتخاذ القرار | مركزي ومن أعلى لأسفل. | تشاركي وشامل. |
| التعامل مع الأزمات | حزم، سيطرة، ومخاطرة. | تواصل، مرونة، وحذر محسوب. |
خاتمة: القيادة لا جنس لها
إن وجود النساء في المناصب القيادية ليس مجرد قضية عدالة اجتماعية، بل هو ضرورة استراتيجية. التنوع في القيادة يؤدي إلى قرارات أفضل، وابتكار أكثر، ومؤسسات أكثر صحة. إن القيمة الحقيقية التي تضيفها المرأة ليست في كونها "امرأة" بيولوجيًا، بل في أنها تجلب تجربة حياتية مختلفة ومنظورًا جديدًا إلى طاولة القرار.
المستقبل ليس لاستبدال هيمنة الرجال بهيمنة النساء، بل لخلق نموذج قيادي "إنساني" يدمج أفضل ما في الصفتين: الحزم والتعاطف، الرؤية والتفاصيل، القوة والمرونة. عندما نصل إلى هذه النقطة، لن نتحدث عن "قيادة نسائية"، بل عن "قيادة جيدة" وكفى.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل النساء أكثر عاطفية من أن يكن قائدات جيدات؟
هذه خرافة قديمة. العاطفة (بمعنى الذكاء العاطفي والتعاطف) هي في الواقع ميزة قيادية كبرى، وليست عيبًا. القدرة على فهم مشاعر الفريق وتحفيزهم هي جوهر القيادة الحديثة. الرجال أيضًا عاطفيون (الغضب عاطفة!)، لكن المجتمع يحكم على عواطف الجنسين بمعايير مزدوجة.
ما هي "الهاوية الزجاجية" (The Glass Cliff)؟
هي ظاهرة لوحظت في عالم الأعمال والسياسة، حيث يتم تعيين النساء في مناصب قيادية عليا غالبًا في أوقات الأزمات الشديدة أو عندما يكون احتمال الفشل مرتفعًا جدًا. هذا يضعهن في موقف صعب ويزيد من خطر فشلهن، مما قد يُستخدم لاحقًا كدليل ضد قدرة النساء على القيادة.
كيف يمكن للمؤسسات دعم وصول النساء للقيادة؟
من خلال تبني سياسات واضحة للتنوع والشمول، وتوفير برامج إرشاد وتوجيه (Mentorship) مخصصة للنساء، وضمان شفافية عمليات الترقية والتقييم، وتوفير بيئة عمل مرنة تدعم التوازن بين العمل والحياة لكل من الرجال والنساء.
هل تختلف القيادة النسائية في العالم العربي؟
تواجه القائدات العربيات تحديات إضافية تتعلق بالثقافة الأبوية والتقاليد، لكنهن يظهرن مرونة وإبداعًا هائلاً. غالبًا ما ينجحن من خلال بناء تحالفات ذكية، واستخدام التعليم كأداة للتمكين، والمزج بين القيم التقليدية (مثل احترام العائلة) والأساليب الإدارية الحديثة.
