تستيقظ قبل الجميع لتجهيز الإفطار والحقائب المدرسية، ثم تهرع إلى العمل لتقضي ثماني ساعات من التركيز والإنتاجية، لتعود مسرعة لتبدأ "وردية" جديدة من الطبخ، والتنظيف، ومساعدة الأطفال في واجباتهم، قبل أن تسقط منهكة في وقت متأخر من الليل. هذا السيناريو ليس استثناءً، بل هو الروتين اليومي لملايين النساء حول العالم. إنه واقع الأم العاملة وضغوط الحياة.
غالبًا ما يحتفي المجتمع بالأم العاملة كـ "بطلة خارقة" تستطيع فعل كل شيء. لكن من منظور علم الاجتماع، هذا الاحتفاء يخفي حقيقة مؤلمة: إنه نظام اجتماعي واقتصادي يعتمد على استنزاف طاقة المرأة. هذا المقال هو محاولة لتفكيك أسطورة "المرأة الخارقة"، وفهم التكلفة الحقيقية التي تدفعها الأمهات في محاولتهن المستحيلة للتوفيق بين عالمين مصممين ليكونوا متناقضين.
الوردية الثانية: العمل الذي لا ينتهي
صاغت عالمة الاجتماع أرلي هوتشايلد مصطلح "الوردية الثانية" (The Second Shift) لوصف العمل المنزلي ورعاية الأطفال التي تقوم بها المرأة العاملة بعد عودتها من وظيفتها المدفوعة الأجر. المشكلة ليست في أن المرأة تعمل، بل في أن دخولها سوق العمل لم يقابله خروج موازٍ للرجل من العمل، أو دخول موازٍ له في العمل المنزلي.
النتيجة هي أن المرأة تعمل "دوامين": دوام مدفوع في المكتب، ودوام غير مدفوع في المنزل. هذا العبء المزدوج هو المصدر الرئيسي للإرهاق المزمن والضغط النفسي الذي تعاني منه الأمهات العاملات.
صراع الأدوار: التمزق بين "الموظفة المثالية" و"الأم المثالية"
تواجه الأم العاملة صراعًا ثقافيًا قاسيًا بين معيارين متناقضين:
- معيار الموظف المثالي: الذي يُتوقع منه أن يكون متاحًا دائمًا، يضع العمل أولاً، ولا يدع حياته الشخصية تؤثر على إنتاجيته. هذا المعيار صُمم تاريخيًا لرجل لديه زوجة تهتم بالمنزل.
- معيار الأم المثالية: التي تُتوقع منها أن تكون متواجدة دائمًا لأطفالها، تشرف على كل تفاصيل حياتهم، وتضحي باحتياجاتها من أجلهم. هذا المعيار هو نتاج لـ القيم الأسرية التقليدية التي لا تزال قوية.
محاولة تلبية هذين المعيارين في آن واحد هي وصفة للشعور الدائم بالذنب والتقصير. تشعر الأم أنها "مقصرة" في العمل لأنها أم، و"مقصرة" في الأمومة لأنها تعمل.
الحمل الذهني: المدير الخفي للمنزل
حتى عندما يشارك الآباء في المهام المنزلية (مثل غسل الأطباق أو توصيل الأطفال)، فإن الأمهات غالبًا ما يتحملن ما يسمى بـ "الحمل الذهني" (Mental Load). إنه عبء التخطيط، والتذكر، والإدارة: "هل حجزنا موعد الطبيب؟"، "ماذا سنطبخ غدًا؟"، "هل اشترى الطفل هدية عيد ميلاد صديقه؟". هذا الجهد الإداري المستمر وغير المرئي هو الذي يستنزف الطاقة العقلية للأم العاملة ويجعلها تشعر بأن عقلها "لا يتوقف أبدًا".
| نوع الضغط | المصدر | الأثر النفسي/الاجتماعي |
|---|---|---|
| ضغط الوقت | الوردية الثانية (العمل + المنزل). | إرهاق مزمن، حرمان من النوم، تدهور الصحة. |
| ضغط الدور | توقعات العمل مقابل توقعات الأمومة. | شعور دائم بالذنب والتقصير (Guilt). |
| ضغط مالي | تكلفة رعاية الأطفال، فجوة الأجور. | قلق مادي، اعتمادية، صعوبة في الادخار. |
| ضغط عقلي | الحمل الذهني (إدارة الأسرة). | تشتت الانتباه، قلق، احتراق نفسي. |
خاتمة: الحل ليس في أن تكوني "أقوى"
إن الحل لمشكلة الأم العاملة ليس في نصحها بأن تكون أكثر تنظيمًا، أو أن تمارس اليوغا، أو أن "تميل" (Lean In) أكثر في العمل. الحل يجب أن يكون هيكليًا واجتماعيًا. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف مكان العمل ليكون صديقًا للأسرة، وإعادة تعريف المنزل ليكون مكانًا للمشاركة العادلة.
نحن بحاجة إلى سياسات توفر رعاية أطفال ميسورة التكلفة، وإجازات أبوة مدفوعة (للآباء أيضًا لتشجيع المشاركة)، ومرونة حقيقية في العمل. الأهم من ذلك، نحن بحاجة إلى التوقف عن تمجيد "تضحية" الأم واعتبارها أمرًا طبيعيًا، والبدء في اعتبارها عملاً شاقًا يستحق الدعم والتقدير والمشاركة.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل أطفال الأمهات العاملات يعانون أكثر من غيرهم؟
الدراسات العلمية تدحض هذه الخرافة باستمرار. أطفال الأمهات العاملات لا يظهرون أي تأخر في النمو الاجتماعي أو الأكاديمي مقارنة بأقرانهم. بل إن بنات الأمهات العاملات غالبًا ما يكن أكثر نجاحًا مهنيًا، وأبناؤهن أكثر مشاركة في الأعمال المنزلية مستقبلاً.
كيف يمكن للأب أن يساعد في تخفيف العبء؟
ليس بـ "المساعدة" بل بـ "المشاركة". المساعدة تعني أن المسؤولية تقع على الأم والأب يقوم بمعروف. المشاركة تعني أن المسؤولية مشتركة بالكامل. هذا يشمل تحمل جزء من "الحمل الذهني" (التخطيط والتذكر) وليس فقط التنفيذ.
ما هو تأثير العمل المرن على الأم العاملة؟
سلاح ذو حدين. يمكن أن يساعد في التوفيق بين المهام، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى تآكل الحدود بين العمل والمنزل، مما يجعل الأم تعمل "طوال الوقت" وفي كل مكان. يجب وضع حدود واضحة لضمان أن المرونة لا تتحول إلى استغلال.
لماذا تشعر الأمهات العاملات بالذنب دائمًا؟
بسبب "أسطورة الأم المثالية" التي تروج لها الثقافة والإعلام. هذه الأسطورة تضع معايير مستحيلة للأمومة (التواجد الدائم، الصبر اللانهائي، التضحية الكاملة). عندما تفشل الأم العاملة (وهو أمر حتمي) في تلبية هذه المعايير المستحيلة، تشعر بالذنب، رغم أنها تقوم بعمل بطولي.
