في كل دورة انتخابية تقريبًا، تظهر الإحصائيات نفس النتيجة المقلقة: معدلات تصويت الشباب هي الأدنى بين جميع الفئات العمرية. هذا يدفع المعلقين والسياسيين إلى إطلاق الحكم السهل: "الشباب لامبالون"، "غير مهتمين بالسياسة"، "منفصلون عن الواقع". لكن في نفس الوقت، نرى هؤلاء الشباب "اللامبالين" يطلقون حملات هاشتاج تجتاح العالم، وينظمون احتجاجات ضخمة من أجل المناخ، ويقودون نقاشات حادة حول العدالة الاجتماعية على منصات تيك توك وانستغرام. فكيف يمكن أن يكونوا لامبالين وفاعلين في آن واحد؟
هذه المفارقة هي مفتاح فهم ظاهرة مشاركة الشباب في العمل السياسي. إنها ليست قصة تراجع، بل قصة تحول جذري. الشباب لا يغادرون الساحة السياسية، بل يعيدون تعريفها بالكامل، مبتكرين أدوات وقواعد جديدة للعبة. هذا المقال هو تحليل سوسيولوجي لهذا التحول، لنفهم لماذا يرفض الشباب "السياسة القديمة" وكيف يبنون "سياساتهم الجديدة".
إعادة تعريف "السياسي": ما وراء صندوق الاقتراع
إن الخطأ الأكبر الذي نرتكبه هو حصر "السياسة" في تعريفها التقليدي: التصويت، الانضمام للأحزاب، والترشح للمناصب. من منظور الشباب، هذا التعريف أصبح ضيقًا ومحدودًا. لقد توسع مفهوم "السياسي" ليشمل كل فعل يهدف إلى التأثير على توزيع القوة والقيم في المجتمع. هذا "المخزون السياسي" الجديد يشمل:
- النشاط الرقمي (Digital Activism): استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي، وتنظيم الحملات، وتوقيع العرائض، ومساءلة الشخصيات العامة.
- الاستهلاك كفعل سياسي (Political Consumerism): مقاطعة الشركات التي تضر بالبيئة أو تدعم سياسات غير عادلة، أو دعم الشركات التي تتوافق مع قيمهم.
- سياسات الهوية (Identity Politics): النضال من أجل حقوق المجموعات المهمشة (العرقية، الجندرية، الجنسية)، وهو ما يعكس تركيزهم على الهوية الشبابية والتحول الثقافي.
- الاحتجاج المباشر: المشاركة في المظاهرات والاعتصامات والإضرابات.
إنها ليست "لا-سياسة"، بل هي "سياسة بوسائل أخرى".
لماذا هجر الشباب السياسة التقليدية؟ تشريح أزمة الثقة
إن ابتعاد الشباب عن الأحزاب وصناديق الاقتراع ليس نابعًا من الجهل أو اللامبالاة، بل هو قرار واعٍ مبني على أزمة ثقة عميقة في المؤسسات القائمة. الأسباب الجذرية لهذا "الطلاق" تشمل:
- الشعور بالتمثيل الناقص: ينظر الشباب إلى السياسيين التقليديين على أنهم جيل كبير في السن، منفصل عن واقعهم، ولا يتحدث لغتهم أو يعالج قضاياهم الملحة (مثل أزمة المناخ، الديون الطلابية، الصحة العقلية).
- بطء وجمود العملية السياسية: في عالم اعتادوا فيه على السرعة والاستجابة الفورية بفضل التحول الرقمي، تبدو العملية البرلمانية والبيروقراطية بطيئة بشكل محبط وغير فعالة.
- الفساد والنفاق: لقد نشأ جيل اليوم في عصر من الفضائح السياسية وتآكل الثقة في النخب. إنهم يرون السياسة التقليدية كلعبة مصالح فاسدة، ويرفضون المشاركة فيها.
- تغير القيم: كما رأينا، ينتقل الشباب نحو "قيم التعبير عن الذات". إنهم أقل اهتمامًا بالولاء الحزبي التقليدي وأكثر اهتمامًا بالقضايا المحددة التي تمس هويتهم وقيمهم الشخصية.
الساحة الجديدة: الإنترنت كفضاء سياسي بديل
في مواجهة هذا الانسداد في القنوات التقليدية، وجد الشباب في الإنترنت فضاءً سياسيًا بديلاً. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي "الساحة العامة" الجديدة التي يتم فيها:
- تحديد الأجندة: يمكن لهاشتاج أن يفرض قضية معينة على الأجندة الإعلامية والسياسية الوطنية في غضون ساعات.
- التعبئة السريعة: يمكن تنظيم احتجاج أو حملة مقاطعة بسرعة هائلة وبموارد قليلة جدًا.
- خلق ثقافة سياسية مضادة: من خلال "الميمز" الساخرة ومقاطع الفيديو القصيرة، يخلق الشباب لغة سياسية جديدة تسخر من السلطة وتتحدى الروايات الرسمية.
لكن هذه الساحة الجديدة لا تخلو من المخاطر، مثل "النشاط الكسول" (Slacktivism) - أي الاكتفاء بـ "الإعجاب" دون فعل حقيقي - وانتشار المعلومات المضللة في غرف الصدى.
| الجانب | المشاركة التقليدية | المشاركة المعاصرة (الشبابية) |
|---|---|---|
| الساحة الرئيسية | صندوق الاقتراع، مقر الحزب، البرلمان. | الإنترنت، الشارع، السوق (المتاجر). |
| التنظيم | هرمي ورسمي (الأحزاب). | شبكي، لا مركزي، وغير رسمي (الحملات). |
| الولاء | للحزب أو الأيديولوجيا. | للقضية أو الهوية. |
| الإيقاع | بطيء، ودوري (مرتبط بالانتخابات). | سريع، ومستمر، وقائم على الأحداث. |
خاتمة: دعوة للاستماع
إن "أزمة" مشاركة الشباب السياسية ليست أزمة لامبالاة، بل هي أزمة في المؤسسات السياسية التقليدية التي فشلت في مواكبة العصر والتواصل مع جيل جديد بقيم وأدوات مختلفة. إن ابتعادهم عن صناديق الاقتراع ليس علامة على نهاية السياسة، بل قد يكون بداية لشكل جديد من الديمقراطية أكثر تشاركية، وأكثر تركيزًا على القضايا، وأكثر فوضوية أيضًا.
التحدي الذي يواجه المجتمعات اليوم ليس كيفية "إجبار" الشباب على العودة إلى السياسة القديمة، بل كيفية بناء جسور بين طاقاتهم المبتكرة والمؤسسات القائمة. إنها دعوة للسياسيين والمؤسسات للاستماع بجدية إلى هذا الجيل، ليس كـ "مشكلة" يجب حلها، بل كـ "مستقبل" يجب احتضانه.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
ما هو "النشاط الكسول" (Slacktivism) وهل هو مشكلة حقيقية؟
النشاط الكسول هو مصطلح ازدرائي يشير إلى الأفعال السياسية الرقمية التي تتطلب جهدًا ضئيلاً (مثل الإعجاب أو المشاركة) ولا تؤدي إلى تغيير حقيقي. بينما هناك خطر من أن يحل هذا النشاط محل المشاركة العميقة، يرى العديد من علماء الاجتماع أنه يمكن أن يكون "بوابة" للمشاركة، حيث يرفع الوعي وقد يشجع الأفراد على الانخراط بشكل أعمق لاحقًا.
لماذا تعتبر قضايا الهوية (مثل حقوق مجتمع الميم) مهمة جدًا للشباب؟
لأن الشباب اليوم نشأوا في عالم فرداني حيث "الهوية" هي مشروع شخصي مركزي. إنهم يرون أن النضال من أجل حق كل فرد في التعبير عن هويته بحرية وأمان هو جزء لا يتجزأ من النضال من أجل مجتمع عادل. هذه القضايا ليست هامشية بالنسبة لهم، بل هي في صميم فهمهم للحرية.
هل يمكن للنشاط الرقمي أن يغير السياسات حقًا؟
بمفرده، نادرًا. لكن عندما يتم دمجه مع أشكال أخرى من الضغط (مثل الاحتجاجات في الشوارع، أو الضغط الإعلامي، أو المقاطعة الاقتصادية)، يمكن أن يكون قويًا للغاية. لقد أظهرت حركات مثل #MeToo و Black Lives Matter كيف يمكن لحملة رقمية أن تترجم إلى تغييرات حقيقية في القوانين والثقافة.
كيف يختلف وضع مشاركة الشباب في العالم العربي؟
غالبًا ما يكون السياق أكثر تعقيدًا وقمعًا. قد تكون القنوات التقليدية للمشاركة مغلقة تمامًا، مما يجعل الفضاء الرقمي هو المتنفس الوحيد المتاح. لقد أظهرت أحداث الربيع العربي كيف يمكن لهذه الأدوات أن تكون فعالة بشكل مذهل في التعبئة، لكنها أظهرت أيضًا المخاطر الهائلة التي يواجهها الشباب عند تحدي الأنظمة القائمة.
