📊 آخر التحليلات

الذكاء الاصطناعي والرأي العام: من يقود من؟

رأس بشري مفتوح يظهر بداخله دوائر إلكترونية وشبكات عصبية صناعية تتلاعب بأفكار وآراء، ترمز إلى تأثير الذكاء الاصطناعي على الرأي العام.

لطالما كان الرأي العام ساحة معركة للأفكار، يتشكل من خلال النقاشات، والصحافة، والخطابات السياسية. كان البشر هم اللاعبون الرئيسيون، بوعيهم وعواطفهم وانحيازاتهم. لكن اليوم، دخل لاعب جديد إلى الساحة، لاعب لا ينام، ولا ينسى، ويمتلك قدرة خارقة على تحليل وتوجيه الملايين في آن واحد. إنه الذكاء الاصطناعي (AI).

إن تأثير الذكاء الاصطناعي على الرأي العام ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو زلزال سوسيولوجي وسياسي. نحن ننتقل من عصر "صناعة الموافقة" (كما وصفها تشومسكي) عبر وسائل الإعلام التقليدية، إلى عصر "هندسة الموافقة" عبر الخوارزميات الذكية. هذا المقال هو محاولة لفهم كيف تعيد هذه التكنولوجيا تشكيل وعينا الجماعي، وهل لا نزال نحن من يمسك بزمام أفكارنا؟

من التنبؤ إلى التوجيه: كيف يفهمنا الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بمراقبتنا، بل يتعلم منا ليتنبأ بسلوكنا:

  • تحليل المشاعر (Sentiment Analysis): تستطيع الخوارزميات مسح ملايين التغريدات والمنشورات في ثوانٍ لتحديد "مزاج" الجمهور تجاه قضية معينة بدقة مذهلة. هذا يمنح الحكومات والشركات قدرة غير مسبوقة على "قراءة عقل" المجتمع.
  • التنميط النفسي (Psychographic Profiling): من خلال تحليل "بصمتك الرقمية" (إعجاباتك، كلماتك، صورك)، يمكن للذكاء الاصطناعي بناء ملف نفسي دقيق لك، يعرف مخاوفك ورغباتك ونقاط ضعفك أفضل من أقرب أصدقائك.

بمجرد أن يفهمنا، يبدأ في الخطوة التالية والأخطر: توجيهنا.

آليات التأثير: كيف يتم التلاعب بالعقول؟

يستخدم الذكاء الاصطناعي عدة أدوات لتشكيل الرأي العام، غالبًا دون أن ندرك:

1. التخصيص المفرط (Hyper-personalization)

بدلاً من رسالة واحدة للجميع (كما في التلفزيون)، يصيغ الذكاء الاصطناعي ملايين الرسائل المختلفة، كل منها مصممة خصيصًا لتناسب "الملف النفسي" لفرد واحد. إذا كنت خائفًا من الجريمة، سيظهر لك المرشح السياسي كحامي القانون. إذا كنت قلقًا على الاقتصاد، سيظهر كخبير مالي. هذا التخصيص يجعل الرسائل مقنعة بشكل لا يقاوم، ولكنه يفتت المجتمع إلى حقائق منفصلة.

2. التزييف العميق (Deepfakes) وصناعة الواقع

كما أشرنا في مقال جرائم الإنترنت، يمكن للذكاء الاصطناعي توليد فيديوهات وصور ونصوص مزيفة لا يمكن تمييزها عن الحقيقة. يمكن اختلاق فضيحة لسياسي، أو تصريح كاذب لزعيم، ونشره كـ أخبار كاذبة فائقة الواقعية. عندما لا نعود نثق بما نراه ونسمعه، ينهار أساس الرأي العام العقلاني.

3. الجيوش الروبوتية (Bots)

يمكن للذكاء الاصطناعي إدارة آلاف الحسابات الوهمية على وسائل التواصل الاجتماعي التي تتصرف كبشر حقيقيين. يمكن لهذه الجيوش إغراق النقاش العام، وتضخيم هاشتاجات معينة، ومهاجمة المعارضين، وخلق "وهم" بأن رأيًا معينًا يحظى بشعبية جارفة، مما يدفع الناس لتبنيه (تأثير العربة).

نهاية المجال العام؟ (The End of the Public Sphere)

حذر الفيلسوف يورغن هابرماس من أن الديمقراطية تحتاج إلى "مجال عام" حيث يتبادل المواطنون الآراء بحرية وعقلانية. الذكاء الاصطناعي يهدد بتدمير هذا المجال:

  • الاستقطاب الآلي: الخوارزميات التي تفضل المحتوى المثير للجدل (لزيادة التفاعل) تدفع الناس نحو التطرف وتقتل الوسطية والاعتدال.
  • انعدام الشفافية: نحن لا نعرف كيف تتخذ الخوارزميات قراراتها (الصندوق الأسود). لا نعرف لماذا نرى خبرًا معينًا ولا نرى آخر. هذا الغموض يجعل من المستحيل مساءلة القوى التي تشكل رأينا.
مقارنة بين تشكيل الرأي العام في العصر التقليدي وعصر الذكاء الاصطناعي
الجانب العصر التقليدي (إعلام جماهيري) عصر الذكاء الاصطناعي (إعلام خوارزمي)
الرسالة واحدة للجميع (Broadcasting). مخصصة لكل فرد (Micro-targeting).
الهدف الإقناع العام. التلاعب السلوكي والنفسي.
السرعة بطيئة (دورة نشر). فورية ولحظية (Real-time).
الفاعل بشر (صحفيون، سياسيون). آلات (خوارزميات) + بشر.

خاتمة: هل يمكننا استعادة عقولنا؟

نحن لا نستطيع، ولا يجب، أن نوقف تطور الذكاء الاصطناعي. لكننا يجب أن نضع له حدودًا أخلاقية وقانونية. الرأي العام يجب أن يظل نتاجًا للتفكير البشري الحر، وليس نتاجًا لمعادلات رياضية تهدف للربح أو السيطرة.

الحل يكمن في "الشفافية الخوارزمية" (حقنا في معرفة كيف يتم استهدافنا)، وفي تعزيز الوعي الرقمي لدى المواطنين ليكونوا محصنين ضد التلاعب، وفي بناء مساحات للنقاش العام تخضع لقيم ديمقراطية وليس لقيم السوق.

الأسئلة الشائعة (FAQ)

هل الذكاء الاصطناعي متحيز؟

نعم، وبشكل خطير. الذكاء الاصطناعي يتعلم من البيانات التي نغذيه بها. إذا كانت هذه البيانات تحتوي على تحيزات تاريخية (عنصرية، جندرية)، فإن الذكاء الاصطناعي سيكرر هذه التحيزات ويضخمها، مما يؤدي إلى تمييز آلي.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تعزيز الديمقراطية؟

إذا تم تصميمه بشكل أخلاقي، يمكن استخدامه لتحليل كميات ضخمة من آراء المواطنين لمساعدة الحكومات على فهم احتياجاتهم بشكل أفضل، وتسهيل عمليات التصويت والمشاركة، وكشف الفساد.

ما هو دور شركات التكنولوجيا الكبرى؟

إنها تمتلك القوة الأكبر حاليًا. قراراتها بشأن كيفية تصميم خوارزمياتها تؤثر على مصير أمم. هناك حاجة ماسة لتنظيم عمل هذه الشركات وإخضاعها للمساءلة الديمقراطية، لأنها لم تعد مجرد شركات، بل أصبحت "حراس بوابة" الحقيقة.

هل سنصل لمرحلة لا نستطيع فيها التمييز بين الإنسان والآلة؟

نحن نقترب من هذه المرحلة بسرعة (اختبار تورينج). مع تطور نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) مثل GPT، أصبح من الصعب جدًا التمييز بين نص كتبه إنسان ونص كتبته آلة. هذا يطرح تحديات هائلة للثقة والمصداقية في المستقبل.

Ahmed Magdy
Ahmed Magdy
مرحبًا، أنا أحمد مجدي، باحث حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع. أجمع بين خبرتي الأكاديمية وشغفي بالتدوين وتبسيط المعرفة، وأوظف الأدوات الرقمية والبحث العلمي لتقديم محتوى عميق وميسر في القضايا الاجتماعية والمجالات التقنية.
تعليقات