لقد اعتدنا على نموذج اقتصادي واحد مهيمن: نموذج يهدف إلى "الربح بأي ثمن". هذا النموذج، كما رأينا في تحليلنا السابق لظاهرة المجتمع والاستهلاك المفرط، قد نجح في إنتاج الثروة، لكنه فشل في توزيعها بعدالة، وتسبب في استنزاف كوكبنا وتفكك روابطنا الاجتماعية. في مواجهة هذا المأزق، يبرز سؤال ملح: هل هناك طريقة أخرى؟ هل يمكن للاقتصاد أن يكون ذا كفاءة وذا قلب في آن واحد؟
الإجابة هي نعم، وتتمثل في الاقتصاد الاجتماعي التضامني (Social and Solidarity Economy - SSE). هذا ليس مجرد مفهوم نظري حالم، بل هو واقع ملموس يمارسه الملايين حول العالم. إنه "القطاع الثالث" الذي يقع بين القطاع العام (الدولة) والقطاع الخاص (الربحي)، ويهدف إلى إعادة دمج الاقتصاد في المجتمع، جاعلاً المال خادمًا للإنسان وليس سيدًا عليه. هذا المقال هو استكشاف لهذا البديل الواعد: مبادئه، أشكاله، وكيف يمكن أن يكون طوق النجاة لمجتمعاتنا.
ما هو الاقتصاد الاجتماعي التضامني؟ تعريف القيمة المضافة الاجتماعية
الاقتصاد الاجتماعي التضامني هو مجموعة من الأنشطة الاقتصادية والمؤسسات التي تشترك في مبادئ أساسية تميزها عن الشركات الرأسمالية التقليدية:
- الأولوية للإنسان والهدف الاجتماعي على رأس المال: الهدف ليس تعظيم الربح للمساهمين، بل خدمة الأعضاء أو المجتمع (توفير فرص عمل، حماية البيئة، تقديم خدمات).
- الإدارة الديمقراطية: قاعدة "شخص واحد، صوت واحد"، وليس "سهم واحد، صوت واحد". القرار يملكه الأعضاء المشاركون، وليس أصحاب رؤوس الأموال الأكبر.
- التضامن وإعادة توزيع الأرباح: الأرباح لا تذهب لجيوب أفراد قلائل، بل يُعاد استثمارها في المشروع لتطويره أو لدعم أهداف اجتماعية.
أشكال الاقتصاد التضامني: أكثر من مجرد جمعيات خيرية
يخطئ الكثيرون بظنهم أن هذا الاقتصاد هو مجرد عمل خيري. في الواقع، هو اقتصاد منتج وفاعل يتخذ أشكالاً قانونية متعددة:
1. التعاونيات (Cooperatives)
هي الشكل الأكثر شهرة. سواء كانت تعاونيات زراعية، أو استهلاكية، أو إسكانية، أو حتى بنوك تعاونية. في التعاونية، يملك الأعضاء (العمال أو المستهلكون) المؤسسة ويديرونها لصالحهم المشترك. إنها نموذج اقتصادي يوزع الثروة والسلطة بشكل عادل.
2. التعاضدية (Mutual Societies)
هي منظمات توفر خدمات التأمين والحماية الاجتماعية لأعضائها (تأمين صحي، تقاعد) بناءً على مبدأ التكافل وتقاسم المخاطر، بعيدًا عن جشع شركات التأمين التجارية.
3. المؤسسات الاجتماعية (Social Enterprises)
هي شركات تجارية تبيع سلعًا أو خدمات، لكن هدفها الأساسي هو حل مشكلة اجتماعية أو بيئية. مثل شركة توظف ذوي الإعاقة، أو شركة تنتج طاقة نظيفة بأسعار رخيصة للفقراء. إنها تستخدم أدوات السوق لتحقيق أهداف المجتمع.
المنظور السوسيولوجي: إعادة "غرس" الاقتصاد في المجتمع
من وجهة نظر علم الاجتماع، يمثل الاقتصاد التضامني عودة إلى ما أسماه كارل بولاني "الاقتصاد المغروس" (Embedded Economy). في الرأسمالية المتوحشة، انفصل الاقتصاد عن المجتمع وأصبح يملي شروطه عليه. أما في الاقتصاد التضامني، يعود الاقتصاد ليكون جزءًا من العلاقات الاجتماعية، محكومًا بالقيم الأخلاقية.
إنه يعيد بناء رأس المال الاجتماعي من خلال:
- تعزيز الثقة: العمل المشترك والملكية المشتركة يبنيان الثقة بين الأفراد.
- التمكين: يمنح الفئات المهمشة (النساء، الشباب، الفقراء) فرصة ليكونوا فاعلين اقتصاديين وليس مجرد متلقين للمساعدات.
- المرونة المحلية (Resilience): المجتمعات التي تمتلك اقتصادًا تضامنيًا قويًا تكون أقدر على الصمود في وجه الأزمات الاقتصادية العالمية، لأن دورتها الاقتصادية محلية وتشاركية.
| الجانب | الاقتصاد الرأسمالي التقليدي | الاقتصاد الاجتماعي التضامني |
|---|---|---|
| الهدف الأسمى | تعظيم الربح المالي. | تلبية حاجات الأعضاء والمجتمع. |
| لمن القرار؟ | للمساهمين (حسب حجم الأسهم). | للأعضاء (شخص واحد = صوت واحد). |
| مصير الأرباح | توزع على المستثمرين. | يُعاد استثمارها أو تُستخدم لغايات اجتماعية. |
| العلاقة بالمحيط | تنافسية واستغلالية أحيانًا. | تضامنية ومسؤولة بيئيًا ومحليًا. |
خاتمة: الطريق الثالث
الاقتصاد الاجتماعي التضامني ليس "يوتوبيا" مستحيلة، ولا هو عودة للشيوعية. إنه "طريق ثالث" واقعي يجمع بين كفاءة السوق وعدالة المجتمع. في وقت تتزايد فيه الفوارق وتتفاقم الأزمات البيئية، يقدم لنا هذا النموذج الأمل في مستقبل يمكن فيه للاقتصاد أن يكون أداة لتحقيق الرفاهية للجميع، وليس آلة لتركيز الثروة في أيدي القلة.
إن دعم هذا الاقتصاد، سواء من خلال الشراء من التعاونيات، أو الاستثمار في المشاريع الاجتماعية، أو سن قوانين داعمة، هو خطوة نحو استعادة إنسانيتنا في عالم مادي.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل الاقتصاد الاجتماعي التضامني مربح؟
نعم، يجب أن يكون مربحًا لكي يستمر (الاستدامة المالية). الفرق هو أن الربح هنا هو "وسيلة" لضمان استمرار الخدمة الاجتماعية، وليس "غاية" في حد ذاته. العديد من التعاونيات حول العالم هي مؤسسات ناجحة جدًا وتنافس الشركات الكبرى.
هل هذا النموذج موجود في الدول العربية؟
نعم، له جذور عميقة في ثقافتنا (الوقف، العونة، الجمعيات). وحديثًا، بدأت تظهر تعاونيات زراعية ونسائية ومشاريع ريادة أعمال اجتماعية في تونس، والمغرب، ومصر، والأردن، وغيرها، كحلول لمشاكل البطالة والفقر.
كيف يختلف هذا عن المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR)؟
المسؤولية الاجتماعية للشركات هي مبادرات تقوم بها شركات رأسمالية تقليدية لتحسين صورتها أو رد الجميل للمجتمع، لكن هدفها الأساسي وهيكلها يظل ربحيًا. أما الاقتصاد التضامني، فالبعد الاجتماعي هو "جوهر" وجود المؤسسة وهيكلها القانوني، وليس مجرد نشاط جانبي.
هل يمكن لهذا الاقتصاد أن يحل محل الاقتصاد التقليدي؟
من غير المرجح أن يحل محله بالكامل في المستقبل القريب، لكنه يطمح لأن يكون قطاعًا قويًا ومؤثرًا يوازن توحش السوق، ويقدم بدائل، ويضغط على القطاع التقليدي ليكون أكثر أخلاقية ومسؤولية.
