سائق يخرج من سيارته في نوبة غضب ليواجه سائقًا آخر بسبب مخالفة بسيطة. نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي يتحول بسرعة إلى تبادل للشتائم والتهديدات. مشجعو فريقين رياضيين يشتبكون في عنف بعد مباراة. هذه المشاهد المألوفة والمقلقة تطرح سؤالًا أساسيًا حول الطبيعة البشرية: من أين يأتي هذا العنف؟ هل العدوانية غريزة حيوانية متأصلة فينا، أم أنها سلوك نتعلمه ونمارسه وفقًا لقواعد يكتبها المجتمع؟
هذا المقال هو استكشاف سوسيولوجي لظاهرة السلوك العدواني (Aggressive Behavior). نحن لا نبحث فقط عن إجابات بسيطة في علم الأحياء أو علم النفس الفردي، بل نغوص في السياق الاجتماعي الأوسع لنفهم كيف أن العدوان، في كثير من الأحيان، ليس مجرد فعل فردي معزول، بل هو أداء لدور اجتماعي مكتسب.
ما هو السلوك العدواني؟ تعريف يتجاوز العنف الجسدي
في علم السلوك، يُعرّف السلوك العدواني بأنه أي سلوك يهدف إلى إيذاء شخص آخر لا يرغب في أن يتأذى. هذا التعريف دقيق ومهم لأنه يشمل نطاقًا واسعًا من الأفعال:
- العدوان الجسدي: الضرب، الدفع، استخدام الأسلحة.
- العدوان اللفظي: الشتائم، الإهانات، التهديدات، نشر الشائعات الخبيثة.
- العدوان السلبي: التجاهل المتعمد، "المعاملة الصامتة"، المماطلة بهدف إحباط الآخرين.
يميز علماء الاجتماع أيضًا بين نوعين رئيسيين من العدوان بناءً على الدافع:
- العدوان العدائي (Hostile Aggression): مدفوع بالغضب، وهدفه الأساسي هو إيقاع الألم. إنه سلوك انفعالي بحت.
- العدوان الأداتي (Instrumental Aggression): يكون فيه العدوان وسيلة لتحقيق هدف آخر. الألم الذي يسببه هو مجرد أثر جانبي. (مثال: لص يضرب شخصًا ليسرق محفظته. الهدف هو المال، والعدوان هو الأداة).
كلا النوعين يمثلان شكلاً من أشكال الانحراف السلوكي الذي يتحدى المعايير الاجتماعية الأساسية للتعايش السلمي.
طبيعة أم تنشئة؟ المنظور الاجتماعي للعدوان
بينما يعترف علم الاجتماع بوجود أسس بيولوجية للعدوان (مثل دور الهرمونات ومناطق الدماغ)، فإنه يركز على أن هذه الأسس هي مجرد "استعدادات". المجتمع والثقافة هما اللذان يحددان متى وكيف وضد من يتم التعبير عن هذه الاستعدادات. نحن نتعلم "نصوص" العدوانية (Aggression Scripts) من خلال التنشئة الاجتماعية.
نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا هي حجر الزاوية هنا. أظهرت تجاربه الشهيرة (تجربة دمية بوبو) أن الأطفال يتعلمون السلوك العدواني ببساطة من خلال مراقبة وتقليد سلوك البالغين، خاصة إذا تم مكافأة هذا السلوك أو لم تتم معاقبته.
لماذا يصبح العدوان مقبولاً؟ عدسات سوسيولوجية
يقدم علم الاجتماع منظورات مختلفة لفهم كيف يمكن للعدوان أن يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي.
- المنظور الوظيفي: يجادل بأن العدوان، رغم كونه مدمرًا، يمكن أن يؤدي وظائف معينة. يمكن أن يساعد في تحديد حدود المجموعات ("نحن" مقابل "هم")، ويعزز التضامن داخل المجموعة في مواجهة عدو خارجي. كما أن معاقبة العدوان تعيد تأكيد السلوك الأخلاقي والقيم المجتمعية.
- منظور الصراع: يرى أن العدوان هو نتيجة حتمية لعدم المساواة في السلطة والموارد. يمكن أن يكون أداة تستخدمها المجموعات المهيمنة للحفاظ على سيطرتها (مثل عنف الدولة)، أو يمكن أن يكون رد فعل من المجموعات المضطهدة على الظلم (مثل أعمال الشغب والاحتجاجات العنيفة).
- المنظور التفاعلي الرمزي: يركز على كيفية تعلم معاني العدوان وتفسيرها في التفاعلات اليومية. في بعض الثقافات الفرعية، قد يُنظر إلى العدوان على أنه وسيلة مشروعة لـ "حفظ ماء الوجه" أو إثبات الرجولة. إنه سلوك يتم تعلمه وأداؤه للحفاظ على المكانة الاجتماعية داخل المجموعة.
| المنظور | السبب الرئيسي للعدوان | مثال |
|---|---|---|
| الوظيفي | يعمل كآلية لتحديد حدود المجموعة وتعزيز التضامن الداخلي. | التنافس العدائي بين الفرق الرياضية الذي يوحد جماهير كل فريق. |
| الصراع | نتيجة لعدم المساواة والصراع على الموارد والسلطة. | أعمال الشغب في الأحياء الفقيرة كرد فعل على الظلم الاقتصادي والاجتماعي. |
| التفاعلي الرمزي | سلوك متعلم من خلال التفاعل وتفسير المواقف. | شاب ينخرط في شجار لإثبات "رجولته" وفقًا لمعايير أقرانه. |
خاتمة: إعادة كتابة "النص" العدواني
إن فهم السلوك العدواني من منظور اجتماعي لا يبرره، بل يمنحنا أدوات أكثر فعالية للتعامل معه. إنه يوضح أن الحل لا يكمن فقط في معاقبة الأفراد، بل في تغيير "النصوص" الاجتماعية التي تجعل العدوان يبدو خيارًا مقبولاً أو حتى ضروريًا. هذا يتطلب معالجة عدم المساواة، وتعزيز نماذج بديلة لحل النزاعات، وتغيير الطريقة التي تصور بها وسائل الإعلام العنف، وتعليم التعاطف كقيمة أساسية.
في النهاية، إذا كان العدوان سلوكًا متعلمًا، فهذا يعني أنه يمكننا أيضًا أن نتعلم السلام. المسؤولية لا تقع فقط على عاتق "الأفراد العدوانيين"، بل تقع على عاتقنا جميعًا كمهندسين مشاركين في بناء مجتمع يكتب نصوصًا للتعاون بدلاً من الصراع.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
ما الفرق بين العدوان والتأكيد على الذات (Assertiveness)؟
هذا تمييز حاسم. التأكيد على الذات هو الدفاع عن حقوقك والتعبير عن أفكارك ومشاعرك بثقة واحترام، دون انتهاك حقوق الآخرين. أما العدوان، فيهدف إلى الهيمنة أو الإيذاء، ويتجاهل حقوق ومشاعر الآخرين. الأول يبني الاحترام، والثاني يخلق الخوف والصراع.
هل ألعاب الفيديو العنيفة تسبب السلوك العدواني؟
العلاقة معقدة ومحل نقاش كبير. معظم الأبحاث تشير إلى أنه لا يوجد دليل قاطع على أن ألعاب الفيديو تسبب العنف بشكل مباشر. ومع ذلك، قد تكون عاملاً مساهمًا من بين العديد من العوامل الأخرى. يمكن أن تعلم "نصوصًا" عدوانية، وتقلل من الحساسية تجاه العنف، وتزيد من الأفكار العدوانية على المدى القصير لدى بعض الأفراد.
هل الرجال أكثر عدوانية من النساء؟
يميل الرجال إلى إظهار مستويات أعلى من العدوان الجسدي المباشر. ومع ذلك، تميل النساء إلى استخدام أشكال أخرى من العدوان، مثل "العدوان العلائقي" (Relational Aggression)، الذي يهدف إلى إيذاء سمعة الشخص أو علاقاته الاجتماعية (مثل نشر الشائعات أو النبذ الاجتماعي).
كيف يمكنني التعامل مع السلوك العدواني من الآخرين؟
الحفاظ على هدوئك هو الخطوة الأولى والأهم. حاول عدم الانجرار إلى دوامة العدوان. استخدم لغة جسد هادئة وواثقة. استمع إلى الشخص الآخر وحاول فهم وجهة نظره (حتى لو كنت لا توافق عليها). ضع حدودًا واضحة وحازمة. وإذا شعرت بالخطر، فمن الأفضل دائمًا الانسحاب من الموقف وطلب المساعدة.
