في حفل زفاف، يُتوقع منك أن تبتسم وتظهر الفرح، حتى لو كنت تمر بيوم سيء. في جنازة، يُتوقع منك أن تظهر الحزن والوقار، حتى لو لم تكن تعرف المتوفى جيدًا. لماذا نشعر بهذا الضغط لنشعر بطريقة معينة في مواقف معينة؟ هل مشاعرنا حقًا عفوية وشخصية، أم أنها تخضع لقواعد غير مرئية يمليها علينا المجتمع؟
هذا السؤال يقودنا إلى عالم السلوك الانفعالي (Emotional Behavior) من منظور علم الاجتماع. نحن لا نتحدث فقط عن المشاعر كاستجابات نفسية داخلية، بل كأداء اجتماعي منظم. هذا المقال هو استكشاف لكيفية أن مشاعرنا ليست مجرد ردود أفعال خاصة بنا، بل هي نتاج اجتماعي معقد، نتعلمه، نديره، وأحيانًا نكافح ضده، في مسرح حياتنا اليومية.
ما هو السلوك الانفعالي؟ تعريف يتجاوز "المشاعر"
السلوك الانفعالي هو أي سلوك يكون مدفوعًا أو مصحوبًا بحالة عاطفية. من منظور نفسي، هذا واضح. لكن من منظور علم الاجتماع، يصبح الأمر أكثر عمقًا. السلوك الانفعالي ليس مجرد "تعبير" عن شعور داخلي، بل هو عملية اجتماعية متكاملة تشمل:
- التجربة الذاتية للشعور.
- التعبير الجسدي (لغة الجسد، تعابير الوجه).
- الأفعال الناتجة عن الشعور (الضحك، البكاء، الصراخ).
الأهم من ذلك، أن علم الاجتماع يجادل بأن كل هذه الجوانب تتشكل بشكل كبير من خلال المعايير الاجتماعية والقيم الاجتماعية. نحن نتعلم "كيف" نشعر و"متى" و"كيف" نعبر عن هذه المشاعر.
البناء الاجتماعي للعواطف: مشاعرنا ليست عالمية تمامًا
الفكرة الأساسية هنا هي أن العواطف "مبنية اجتماعيًا". هذا لا يعني أن الأساس البيولوجي للمشاعر (مثل استجابة الخوف) غير موجود. بل يعني أن الثقافة والمجتمع يلعبان دورًا هائلاً في:
- تحديد المثيرات: ما الذي يسبب الغضب في ثقافة ما قد يسبب الخجل في أخرى.
- تفسير المشاعر: كيف نفسر شعور "الفراشات في المعدة"؟ هل هو حب أم قلق؟ السياق الاجتماعي يساعدنا على التفسير.
- توجيه التعبير: بعض الثقافات تشجع على التعبير الصريح عن الحزن (مثل البكاء بصوت عالٍ)، بينما تعتبره ثقافات أخرى علامة ضعف.
هذا البناء الاجتماعي يتم من خلال آليتين رئيسيتين صاغتهما عالمة الاجتماع الشهيرة آرلي هوكسشايلد.
1. قواعد الشعور (Feeling Rules)
لكل مجتمع مجموعة من القواعد غير المكتوبة حول المشاعر. هذه "قواعد الشعور" تملي علينا ما يجب أن نشعر به (أو لا نشعر به) في مواقف معينة، ومدة هذا الشعور، وشدته. (مثال: "يجب أن تشعر بالامتنان عند تلقي هدية"، "لا يجب أن تضحك في جنازة"). عندما لا تتطابق مشاعرنا الحقيقية مع هذه القواعد، نشعر بالذنب أو عدم الارتياح.
2. العمل العاطفي (Emotional Labor)
هذا هو الجهد الذي نبذله لجعل مشاعرنا الظاهرة تتوافق مع "قواعد الشعور". إنه "إدارة" مشاعرنا. في بعض الأحيان، نقوم بـ "التمثيل السطحي" (Surface Acting)، حيث نزيف التعبير (مثل ابتسامة مضيفة الطيران). وفي أحيان أخرى، نقوم بـ "التمثيل العميق" (Deep Acting)، حيث نحاول بالفعل تغيير مشاعرنا الداخلية لتتناسب مع التوقعات. العديد من المهن الخدمية تتطلب "العمل العاطفي" كجزء أساسي من الوظيفة.
وظيفة السلوك الانفعالي في المجتمع
السلوك الانفعالي ليس مجرد تجربة فردية، بل يؤدي وظائف اجتماعية حيوية.
- كأداة للضبط الاجتماعي: مشاعر مثل الخجل والذنب هي أدوات قوية لـ ضبط السلوك في المجتمع. نحن نتجنب السلوك الشاذ ليس فقط لتجنب العقوبات الخارجية، بل أيضًا لتجنب هذه المشاعر السلبية.
- كمحرك للسلوك الأخلاقي: مشاعر مثل التعاطف والشفقة هي أساس السلوك الأخلاقي ومساعدة الآخرين. الغضب الأخلاقي (Righteous Anger) يمكن أن يكون الوقود الذي يحرك الحركات الاجتماعية.
- كصمغ اجتماعي: مشاركة التجارب العاطفية (الفرح في احتفال، الحزن في مأساة) تخلق روابط قوية وتزيد من التماسك الاجتماعي، وهي جوهر الهوية الاجتماعية في الجماعات.
| الجانب | المنظور النفسي/البيولوجي | المنظور السوسيولوجي |
|---|---|---|
| الأصل | استجابات فطرية، كيميائية عصبية، تطورية. | مبنية اجتماعيًا، متعلمة، وتتشكل ثقافيًا. |
| الطبيعة | عالمية ومشتركة بين جميع البشر. | نسبية وتختلف باختلاف الثقافات والمواقف. |
| التركيز | على ما يحدث داخل الفرد (الدماغ، الهرمونات). | على ما يحدث بين الأفراد (التفاعل، القواعد). |
| السلوك | تعبير مباشر عن حالة داخلية. | أداء مُدار يتم تكييفه ليناسب التوقعات الاجتماعية. |
خاتمة: نحن مهندسو مشاعرنا
السلوك الانفعالي هو أحد أكثر جوانب تجربتنا الإنسانية تعقيدًا. إنه ليس مجرد انفجارات عفوية من الداخل، بل هو نتيجة تفاوض مستمر بين استجاباتنا البيولوجية و"قواعد الشعور" التي يفرضها مجتمعنا. نحن لا "نشعر" فقط، بل "نقوم بفعل الشعور" (we do feeling) وفقًا لنصوص اجتماعية معقدة.
إن فهم هذا المنظور لا يجرد مشاعرنا من صدقها، بل يمنحنا رؤية أعمق لأنفسنا ولمجتمعنا. إنه يكشف عن الضغوط غير المرئية التي تشكل حياتنا العاطفية ويمنحنا القدرة على التساؤل: هل هذه المشاعر التي أشعر بها هي حقًا "مشاعري"، أم هي المشاعر التي يتوقع مني المجتمع أن أشعر بها؟ في هذا التساؤل، تكمن بداية الحرية العاطفية.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل يعني هذا أن مشاعري ليست "حقيقية"؟
لا، مشاعرك حقيقية جدًا بالنسبة لك. المنظور الاجتماعي لا ينفي حقيقة التجربة العاطفية، بل يوضح أن الطريقة التي نختبر بها هذه المشاعر، ونفسرها، ونعبر عنها، تتشكل بشكل كبير من خلال عالمنا الاجتماعي. إنها حقيقية، لكنها ليست شخصية بالكامل.
ما هو "العدوى العاطفية"؟
هي ظاهرة تنتشر فيها المشاعر من شخص لآخر في مجموعة، كما لو كانت فيروسًا. الضحك، أو الخوف، أو الحماس يمكن أن ينتشر بسرعة في حشد من الناس. إنها شكل من أشكال العدوى الاجتماعية وتلعب دورًا كبيرًا في السلوك الجمعي.
هل "العمل العاطفي" ضار بالصحة النفسية؟
يمكن أن يكون كذلك. عندما يكون هناك فجوة كبيرة ومستمرة بين ما تشعر به حقًا وما يُتوقع منك أن تظهره (خاصة في العمل)، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإرهاق العاطفي، والشعور بالاغتراب، ومشاكل صحية نفسية أخرى.
هل تختلف "قواعد الشعور" بين الرجال والنساء؟
نعم، بشكل كبير. في العديد من الثقافات، يتم تعليم الرجال (من خلال التنشئة الاجتماعية) قمع مشاعر مثل الحزن والخوف ("الأولاد لا يبكون")، بينما يتم تشجيع النساء على التعبير عنها. في المقابل، قد يكون التعبير عن الغضب مقبولًا اجتماعيًا للرجال أكثر من النساء. هذه القواعد المختلفة هي جزء من بناء الأدوار الجندرية.
