من المفترض أن تكون الجامعة منارة للعقل، ومساحة للحوار، ومصنعًا للمستقبل. إنها المكان الذي تُصقل فيه الأفكار وتُبنى فيه الشخصيات وتُنسج فيه الأحلام. لكن في السنوات الأخيرة، تحولت هذه الصورة المثالية في العديد من المجتمعات إلى نقيضها. أصبحت أخبار المشاجرات الجماعية، والاعتداءات، والتوترات القبلية أو السياسية داخل الحرم الجامعي مشهدًا متكررًا ومقلقًا. فكيف تحول الفضاء المخصص للعلم إلى ساحة للصراع؟
إن ظاهرة العنف الجامعي ليست مجرد "شغب طلابي" أو سلوكيات فردية منحرفة. من منظور علم الاجتماع، هي عرض خطير لأزمات أعمق بكثير، تمتد جذورها خارج أسوار الجامعة لتصل إلى قلب بنية المجتمع نفسه. هذا المقال هو محاولة لتشريح هذه الظاهرة، ليس لإدانة الطلاب، بل لفهم التربة الاجتماعية التي تنبت فيها بذور هذا العنف.
ما هو العنف الجامعي؟ تعريف يتجاوز اللكمات
عندما نتحدث عن العنف الجامعي، لا يجب أن يقتصر فهمنا على العنف الجسدي فقط. إنه طيف واسع يشمل:
- العنف الجسدي: من المشاجرات الفردية إلى الاشتباكات الجماعية المنظمة.
- العنف اللفظي والنفسي: التهديد، الابتزاز، التنمر، والإهانة التي تخلق بيئة من الخوف.
- العنف الرمزي: استخدام الرموز (مثل الشعارات، أو الأعلام، أو حتى طريقة اللباس) لترهيب المجموعات الأخرى وتأكيد الهيمنة.
- العنف المبني على النوع الاجتماعي: التحرش الجنسي والاعتداءات التي تستهدف الطالبات بشكل خاص.
إن فهم هذا الطيف الواسع ضروري لإدراك أن العنف ليس مجرد حدث، بل هو "مناخ" يمكن أن يسمم الحياة الجامعية بأكملها.
الجذور العميقة للعنف: الجامعة كمرآة للمجتمع
إن إلقاء اللوم على "أخلاق الشباب" هو التفسير الأسهل والأكثر سطحية. التحليل السوسيولوجي العميق يكشف أن الجامعة لا تنتج العنف، بل "تستورده" من المجتمع وتعيد إنتاجه في شكل مكثف. الأسباب الحقيقية تكمن في ثلاثة مستويات متداخلة:
1. المستوى المجتمعي (الماكرو): التربة التي ينمو فيها العنف
الجامعة هي مجرد وعاء يمتلئ بالتوترات الموجودة في المجتمع الأوسع:
- الإحباط الاقتصادي وانسداد الأفق: هذا هو المحرك الأقوى. في الماضي، كانت الشهادة الجامعية تذكرة شبه مضمونة للترقي الاجتماعي. أما اليوم، في ظل التغير في بنية الطبقة الوسطى والبطالة المتزايدة بين الخريجين، يشعر الكثير من الشباب أنهم يركضون في سباق لا نهاية له نحو مستقبل مسدود. هذا الإحباط الهائل يتحول بسهولة إلى غضب وعدوانية.
- تآكل السلطة والأنوميا: ضعف الثقة في المؤسسات (الدولة، القانون) وتراجع دور الهياكل التقليدية (الأسرة، الدين) في ضبط السلوك يخلق حالة من "الأنوميا" أو اللامعيارية. في هذا الفراغ، تصبح "لغة القوة" هي اللغة الوحيدة المفهومة.
- الاستقطاب السياسي والقبلي: غالبًا ما تكون الجامعات ساحات مصغرة للصراعات السياسية أو القبلية أو الطائفية الموجودة في المجتمع. يتم استخدام الطلاب كـ "وقود" لهذه الصراعات من قبل قوى خارجية.
2. المستوى الجامعي (الميزو): البيئة الحاضنة
البيئة الجامعية نفسها يمكن أن تساهم في تفاقم المشكلة:
- الاكتظاظ ونقص الموارد: الفصول المكتظة، ونقص المرافق، والمنافسة الشرسة على الموارد المحدودة تخلق بيئة متوترة ومشحونة.
- ضعف آليات حل النزاعات: غياب قنوات فعالة للطلاب للتعبير عن مظالمهم أو لحل النزاعات بشكل سلمي يدفعهم إلى أخذ "حقوقهم" بأيديهم.
3. المستوى الفردي (الميكرو): أزمة الشاب المعاصر
يصل الشاب إلى الجامعة وهو يعاني بالفعل من ضغوط هائلة:
- القلق الوجودي وأزمة الهوية: كما ناقشنا في مقال القلق الوجودي عند الشباب، يعيش الشباب في حالة من الضياع والبحث عن المعنى. قد يصبح الانتماء إلى "شلة" أو مجموعة عنيفة وسيلة سهلة للحصول على هوية وشعور بالانتماء والقوة.
| المجال | الوظيفة الظاهرة (الهدف المعلن) | الخلل الوظيفي الكامن (النتيجة السلبية) |
|---|---|---|
| التعليم | نقل المعرفة والمهارات. | خلق منافسة شرسة وضغط نفسي هائل يؤدي إلى الإحباط. |
| التنشئة الاجتماعية | دمج الشباب في المجتمع وتعليمهم قيم المواطنة. | تكوين تكتلات مغلقة (عشائرية، سياسية) تعزز الانقسام بدلاً من الاندماج. |
| الفرز الاجتماعي | توزيع الأفراد على وظائف المستقبل بناءً على الكفاءة. | فشل في تحقيق الوعد بالترقي الاجتماعي، مما يخلق شعورًا بالظلم والغضب. |
خاتمة: ما تقوله لنا الجامعة عن أنفسنا
إن العنف الجامعي هو جرس إنذار يصم الآذان. إنه يخبرنا أن "المصنع" الذي يفترض به أن ينتج قادة المستقبل يعاني من عطل هيكلي خطير. إنه يكشف عن حجم الإحباط واليأس الذي يشعر به جيل كامل، وهو نفس اليأس الذي قد يدفع البعض إلى خيارات أكثر تطرفًا مثل الهجرة غير الشرعية.
الحل لا يكمن في زيادة عدد حراس الأمن على البوابات، بل في معالجة الأسباب الجذرية. يتطلب الأمر إعادة التفكير في دور الجامعة، وإصلاح علاقتها بسوق العمل، وتوفير مساحات حقيقية للحوار والمشاركة، وبناء عقد اجتماعي جديد يمنح الشباب الأمل في مستقبل يستحق الكفاح من أجله، ليس بالعضلات، بل بالعقول.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل العنف الجامعي ظاهرة ذكورية بالأساس؟
إلى حد كبير، نعم. معظم مرتكبي العنف الجسدي هم من الذكور. يفسر علماء الاجتماع هذا من خلال "أزمة الذكورة"، حيث يجد الشباب صعوبة في تحقيق الأدوار الذكورية التقليدية (مثل دور المعيل) في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، فيلجأون إلى العنف الجسدي كوسيلة لإثبات "رجولتهم" وقوتهم.
ما هو دور وسائل التواصل الاجتماعي في تفاقم العنف الجامعي؟
تلعب دور "المُسرّع" والمضخم. يمكن لشائعة أو إهانة بسيطة عبر الإنترنت أن تنتشر كالنار في الهشيم وتؤدي إلى حشد وتعبئة سريعة للعنف. كما أنها تستخدم لـ "تمجيد" العنف، حيث يتم تصوير المشاجرات ونشرها كدليل على القوة والهيمنة.
هل يرتبط العنف الجامعي بالتحصيل الأكاديمي؟
العلاقة ليست مباشرة. غالبًا ما لا يكون المشاركون في العنف من الطلاب الفاشلين أكاديميًا بالضرورة. المشكلة ليست في القدرة العقلية، بل في الإحباط الاجتماعي والشعور بالانسداد. قد يكون الطالب المتفوق الذي لا يرى مستقبلاً لوظيفته عرضة للعنف تمامًا مثل الطالب المتعثر.
ما هي الخطوات العملية التي يمكن للجامعات اتخاذها؟
يمكن للجامعات إنشاء وحدات متخصصة في الوساطة وحل النزاعات، وتفعيل الأنشطة الطلابية (الرياضية والثقافية) التي تخلق هوية جامعية مشتركة تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتوفير خدمات دعم نفسي قوية للتعامل مع ضغوط الطلاب، وتطبيق سياسات "عدم التسامح المطلق" مع العنف بشكل حازم وعادل.
