📊 آخر التحليلات

الخوارزميات والرأي العام: هل نحن أحرار في ما نفكر فيه؟

يد روبوتية تحرك خيوطًا متصلة برؤوس مجموعة من الناس، ترمز إلى تحكم الخوارزميات وتشكيل الرأي العام.

عندما تتصفح فيسبوك أو يوتيوب، قد تعتقد أنك تختار ما تشاهده بحرية. لكن الحقيقة هي أن هناك "محررًا" خفيًا يعمل في الخلفية، يقرر لك ما هو مهم، وما هو مضحك، وما هو صادم، وما يجب أن يثير غضبك. هذا المحرر ليس إنسانًا، بل هو معادلة رياضية معقدة تسمى "الخوارزمية".

إن العلاقة بين الخوارزميات وتشكيل الرأي العام هي واحدة من أخطر القضايا في عصرنا. لم يعد الرأي العام يتشكل في المقاهي أو عبر الصحف، بل يتم هندسته في سيرفرات وادي السيليكون. هذا المقال هو محاولة لكشف النقاب عن هذا "الصندوق الأسود": كيف تعمل هذه الخوارزميات؟ ولماذا تميل إلى التطرف؟ وهل لا تزال الديمقراطية ممكنة عندما تتحكم الآلة في الحوار العام؟

كيف تعمل الخوارزمية؟ منطق "الاستحواذ"

لفهم تأثير الخوارزميات، يجب أن نفهم هدفها. هدف منصات التواصل الاجتماعي ليس "تنويرك" أو "قول الحقيقة"، بل هدفها الربحي هو إبقاؤك على المنصة لأطول فترة ممكنة (لبيع الإعلانات). لتحقيق ذلك، تم تصميم الخوارزميات لتعرض لك المحتوى الذي يثير "تفاعلك" (Engagement) بأي ثمن.

المشكلة هي أن المشاعر السلبية (الغضب، الخوف، الصدمة) تولد تفاعلاً أكبر بكثير من المشاعر الإيجابية أو المحايدة. لذا، تميل الخوارزميات تلقائيًا إلى تضخيم المحتوى المستقطب، والمثير للجدل، والمضلل، لأنه هو الذي يبقيك ملتصقًا بالشاشة.

آليات التلاعب: كيف يتم توجيه عقولنا؟

تستخدم الخوارزميات عدة آليات خفية لتشكيل ما نراه وما نفكر فيه:

1. فقاعات الترشيح (Filter Bubbles)

تقوم الخوارزمية بتحليل سجل تصفحك وإعجاباتك، ثم تعرض لك فقط المحتوى الذي يتوافق مع آرائك المسبقة. إذا كنت تميل لليمين، سترى فقط أخبارًا يمينية. وإذا كنت تميل لليسار، سترى العكس. هذا يعزلك في "فقاعة" فكرية، ويجعلك تعتقد أن الجميع يفكر مثلك، مما يعمق الانقسام ويجعل الحوار مع الآخر مستحيلاً.

2. التضخيم الخوارزمي (Algorithmic Amplification)

يمكن للخوارزمية أن تأخذ رأيًا هامشيًا أو متطرفًا وتجعله يبدو كأنه رأي الأغلبية من خلال عرضه لملايين المستخدمين. هذا يخلق "وهم الإجماع" ويغير تصورنا لما هو مقبول اجتماعيًا. كما رأينا في ثقافة التيك توك، يمكن لتريند تافه أو خطير أن يصبح حديث العالم في ساعات.

3. الثقوب السوداء (Rabbit Holes)

نظام التوصيات (Recommendations) في يوتيوب وفيسبوك مصمم ليقودك من فيديو لآخر. غالبًا ما تقودك هذه التوصيات إلى محتوى أكثر تطرفًا وغرابة تدريجيًا (من فيديو عن اليوغا إلى فيديو عن نظريات المؤامرة). هذا المسار الخوارزمي يمكن أن يغير قناعات الأفراد ببطء ودون وعي منهم.

النتيجة: ديمقراطية في خطر

إن تأثير هذه الآليات على المجتمع كارثي:

  • تآكل الحقيقة المشتركة: لم يعد لدينا "واقع مشترك" نتفق عليه. كل مجموعة تعيش في واقعها الخاص المبني على الحقائق التي تغذيها بها خوارزمياتها.
  • الاستقطاب السياسي: تزيد الخوارزميات من حدة الكراهية بين الجماعات السياسية والدينية والعرقية، مما يهدد التضامن الاجتماعي والسلم الأهلي.
  • التلاعب بالانتخابات: يمكن استخدام هذه الأدوات (كما حدث في فضيحة كامبريدج أناليتيكا) لاستهداف الناخبين برسائل مخصصة للتلاعب بأصواتهم، مما يفرغ الديمقراطية من معناها.
مقارنة بين تشكيل الرأي العام التقليدي والرقمي (الخوارزمي)
الجانب الرأي العام التقليدي (إعلام جماهيري) الرأي العام الرقمي (خوارزمي)
حارس البوابة بشري (محرر، صحفي) ذو تحيزات واضحة. آلي (خوارزمية) ذات تحيزات خفية ومعقدة.
معيار النشر الأهمية الخبرية، المصلحة العامة. التفاعل، القابلية للانتشار (Virality).
طبيعة الجمهور جمهور واسع وموحد نسبيًا. جماهير مجزأة في فقاعات منعزلة.
سرعة التأثير بطيئة (دورة الأخبار اليومية). فورية ولحظية.

خاتمة: استعادة السيطرة

الخوارزميات ليست قدرًا، بل هي أدوات صنعها البشر ويمكن للبشر تغييرها أو تنظيمها. نحن بحاجة إلى "شفافية خوارزمية": الحق في معرفة لماذا نرى ما نراه. وبحاجة إلى قوانين تجبر المنصات على تحمل مسؤولية المحتوى الذي تروج له.

لكن الحل الأهم يبدأ من عندنا. نحن بحاجة إلى ممارسة "شك صحي" تجاه ما نراه على شاشاتنا، والبحث بوعي عن مصادر معلومات متنوعة، وكسر فقاعاتنا الخاصة. حرية الرأي تبدأ بحرية المعرفة، ولا يمكن أن نكون أحرارًا إذا كانت الآلات هي التي تقرر ما نعرفه.

الأسئلة الشائعة (FAQ)

هل الخوارزميات "شريرة"؟

الخوارزميات ليست كائنات واعية لتكون شريرة أو خيرة. إنها مجرد تعليمات برمجية تنفذ ما صُممت لأجله (زيادة التفاعل والربح). المشكلة هي أن "النتيجة الجانبية" لهذا التصميم الربحي هي تدمير النسيج الاجتماعي ونشر الكراهية.

كيف يمكنني كسر "فقاعة الترشيح" الخاصة بي؟

قم بوعي بمتابعة صفحات وأشخاص يختلفون معك في الرأي. اقرأ مصادر إخبارية متنوعة. امسح سجل تصفحك بانتظام. استخدم محركات بحث لا تتتبعك. والأهم، لا تعتمد على السوشيال ميديا كمصدر وحيد للأخبار.

ما هو "التحيز الخوارزمي" (Algorithmic Bias)؟

هو عندما تعكس الخوارزمية وتضخم التحيزات البشرية الموجودة في البيانات التي تدربت عليها. مثلًا، قد تميز خوارزمية توظيف ضد النساء أو الأقليات لأن البيانات التاريخية للشركة كانت متحيزة ضدهم. الخوارزمية ليست محايدة، بل هي مرآة لتحيزاتنا.

هل يمكن استخدام الخوارزميات للخير؟

بالتأكيد. يمكن تصميم خوارزميات لتعزيز المحتوى الموثوق، وتشجيع الحوار البناء، وكشف الأخبار المزيفة. المشكلة ليست في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في نموذج العمل الاقتصادي الذي يحركها حاليًا.

Ahmed Magdy
Ahmed Magdy
مرحبًا، أنا أحمد مجدي، باحث حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع. أجمع بين خبرتي الأكاديمية وشغفي بالتدوين وتبسيط المعرفة، وأوظف الأدوات الرقمية والبحث العلمي لتقديم محتوى عميق وميسر في القضايا الاجتماعية والمجالات التقنية.
تعليقات