في الماضي، كان التغيير الاجتماعي بطيئًا، يتطلب سنوات من التنظيم السري، وتوزيع المنشورات الورقية، والاجتماعات في الأقبية. اليوم، يمكن لهاشتاج واحد أن يسقط حكومة، ويمكن لفيديو مدته دقيقة أن يغير قانونًا، ويمكن لصورة واحدة أن تشعل ثورة عالمية. لقد منحنا "الإعلام الجديد" قوة هائلة، لكن هل هذه القوة حقيقية ومستدامة، أم أنها مجرد فقاعة رقمية تنفجر بسرعة؟
إن العلاقة بين الإعلام الجديد والتغير الاجتماعي هي واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في علم الاجتماع المعاصر. هذا المقال هو محاولة لفهم هذه الديناميكية الجديدة: كيف تحولت المنصات الرقمية من أدوات للدردشة إلى محركات للتاريخ؟ وما هي حدود هذه القوة؟ وهل نحن أمام عصر جديد من الديمقراطية المباشرة أم أمام وهم كبير؟
من المتلقي السلبي إلى "المواطن الصحفي"
الفرق الجوهري بين الإعلام القديم (التلفزيون، الصحف) والإعلام الجديد (السوشيال ميديا، المدونات) هو "التفاعلية". في النموذج القديم، كانت السلطة تحتكر المعلومة وتبثها لجمهور صامت. في النموذج الجديد، أصبح كل فرد يمتلك هاتفًا ذكيًا هو "مواطن صحفي"، وناشر، وناقد.
هذا التحول كسر احتكار الحقيقة. لم يعد بإمكان الأنظمة التعتيم على انتهاكاتها بسهولة، لأن هناك دائمًا كاميرا توثق وشبكة تنشر. هذا "التوثيق الشعبي" هو الوقود الأول لأي حراك اجتماعي حديث، كما رأينا بوضوح في المشاركة النسوية في الحركات الاجتماعية وحملات #MeToo.
آليات التغيير الرقمي: كيف يحدث السحر؟
يعمل الإعلام الجديد كمسرّع للتغيير عبر ثلاث آليات رئيسية:
1. بناء الوعي والتأطير (Framing)
تسمح المنصات الرقمية للنشطاء بإعادة صياغة القضايا وطرحها للنقاش العام بعيدًا عن رقابة الإعلام الرسمي. يمكنهم تحويل قضية "شخصية" (مثل تعرض فتاة للضرب) إلى قضية "رأي عام" (عنف ضد المرأة)، مما يجبر المجتمع والسلطة على التعامل معها. هذا يؤثر بشكل مباشر على تأثير الإعلام على وعي الشباب.
2. التعبئة والحشد (Mobilization)
ما كان يستغرق أسابيع لتنظيمه، أصبح يتم في ساعات. يمكن لصفحة فيسبوك أو مجموعة واتساب أن تحشد الآلاف في مكان وزمان محددين بتكلفة صفرية تقريبًا. هذه "الخفة" في التنظيم تجعل الحركات الاجتماعية مرنة وصعبة التنبؤ.
3. التشبيك والتضامن العالمي
يخلق الإعلام الجديد جسورًا بين الحركات المحلية والعالمية. نشطاء المناخ في مصر يتواصلون مع نظرائهم في السويد، والنسويات في تونس يتبادلون الخبرات مع النسويات في الأرجنتين. هذا التضامن العابر للحدود يمنح الحركات المحلية قوة ودعمًا دوليًا.
الوجه الآخر: هل "اللايك" يكفي؟
رغم هذه القوة، يواجه النشاط الرقمي انتقادات وتحديات جدية:
- النشاط الكسول (Slacktivism): الشعور بالرضا عن النفس بمجرد مشاركة منشور أو تغيير صورة البروفايل، دون القيام بفعل حقيقي على الأرض. هذا قد يعطي وهمًا بالتغيير بينما الواقع لم يتغير.
- الاستقطاب وغرف الصدى: كما ناقشنا في التواصل الافتراضي وتأثيره على القيم، الخوارزميات تميل لعزلنا في فقاعات فكرية، مما يجعلنا نتحدث "إلى" أنفسنا بدلاً من الحوار "مع" الآخرين، وهو ما يعيق بناء توافق مجتمعي واسع ضروري للتغيير المستدام.
- الرقابة والمراقبة الرقمية: الأنظمة السلطوية تعلمت الدرس أيضًا. إنها تستخدم نفس الأدوات لمراقبة النشطاء، ونشر الذباب الإلكتروني، وإغراق المنصات بالمعلومات المضللة لتشتيت الانتباه.
| الجانب | الحراك التقليدي | الحراك الرقمي (الشبكي) |
|---|---|---|
| البنية | هرمية، قيادة مركزية واضحة. | أفقية، بلا قيادة واضحة (Leaderless). |
| السرعة | بطيئة، تتطلب تخطيطًا طويلًا. | فورية، فيروسية (Viral). |
| المشاركة | تتطلب التزامًا جسديًا ووقتًا. | منخفضة التكلفة، سهلة الدخول والخروج. |
| الاستدامة | عالية (بسبب التنظيم الصلب). | منخفضة (تخمد بسرعة بعد الفورة الأولى). |
خاتمة: الأداة ليست الحل
الإعلام الجديد ليس عصا سحرية. إنه "مكبر صوت" قوي، لكن مكبر الصوت لا يكتب الخطاب ولا يبني المؤسسات. التغيير الحقيقي يتطلب الانتقال من "الاحتجاج الرقمي" إلى "التنظيم الواقعي". يتطلب تحويل الطاقة المتفجرة على الإنترنت إلى هياكل سياسية واجتماعية مستدامة على الأرض.
النجاح في المستقبل سيكون حليف أولئك الذين يتقنون المزج بين العالمين: استخدام سرعة وانتشار الإعلام الجديد، مع عمق والتزام التنظيم التقليدي. الثورة قد تبدأ بتغريدة، لكنها لا تكتمل إلا بالعمل الجاد والمستمر.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل الإعلام الجديد يسبب الفوضى؟
قد يبدو كذلك لأنه يكسر الهياكل التقليدية للسيطرة. لكن الفوضى غالبًا ما تكون مرحلة انتقالية ضرورية لإعادة ترتيب المجتمع بشكل أكثر عدالة. المشكلة ليست في الأداة، بل في كيفية استخدامنا لها وفي غياب آليات ديمقراطية لاستيعاب هذه الأصوات الجديدة.
ما هو دور "المؤثرين" في التغيير الاجتماعي؟
دورهم مزدوج. يمكنهم استخدام منصاتهم لتسليط الضوء على قضايا مهمة وحشد الملايين (مثل حملات التبرع). لكنهم قد يساهمون أيضًا في تسطيح القضايا المعقدة أو نشر معلومات غير دقيقة سعيًا وراء "التريند".
كيف يمكن التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيفة (Fake News)؟
هذه مهارة أساسية في العصر الرقمي. يجب التحقق من المصدر، والبحث عن الخبر في مصادر متعددة موثوقة، والحذر من العناوين العاطفية والمثيرة، واستخدام أدوات التحقق من الصور والفيديوهات. الوعي النقدي هو خط الدفاع الأول.
هل سيحل الإعلام الجديد محل الإعلام التقليدي تمامًا؟
ليس تمامًا، بل سيحدث تكامل واندماج. الإعلام التقليدي بدأ يتبنى أدوات الإعلام الجديد (بث مباشر، تفاعل)، والإعلام الجديد بدأ يتجه نحو إنتاج محتوى احترافي. المستقبل لنموذج هجين يجمع بين مصداقية الصحافة التقليدية وسرعة وتفاعلية الإعلام الرقمي.
