كيف يمكن لشاب عادي، يحب كرة القدم ويستمع للموسيقى، أن يتحول فجأة إلى شخص يرى العالم بلونين فقط: أسود وأبيض، كفر وإيمان، نحن وهم؟ كيف يتحول الدين، الذي يدعو للرحمة والسلام، في عقول البعض إلى مبرر للكراهية والقتل؟
إن ظاهرة التطرف الديني هي واحدة من أكثر الألغاز تعقيدًا وإيلامًا في عصرنا. إنها ليست مجرد "فهم خاطئ للدين"، بل هي عملية اجتماعية ونفسية معقدة. التطرف هو "عرض" لمرض أعمق يصيب الفرد والمجتمع. هذا المقال هو محاولة لتشريح هذا المرض: ما هي الظروف التي تخلق المتطرف؟ ولماذا ينجذب البعض لهذا الطريق المظلم؟
صناعة المتطرف: ليس وحشًا، بل إنسانًا مأزومًا
خلافًا للاعتقاد السائد، المتطرفون ليسوا مجانين أو وحوشًا بالفطرة. الدراسات السوسيولوجية تشير إلى أن التطرف غالبًا ما يكون استجابة لـ "أزمة":
- أزمة الهوية: في عالم معولم وسائل، يعاني الشباب من قلق وجودي وضياع. التطرف يقدم لهم "هوية صلبة" وجاهزة: "أنت جندي الله المختار". إنه يمنحهم شعورًا زائفًا ولكن قويًا بالمعنى والأهمية.
- أزمة العدالة (الشعور بالمظلومية): الفقر، والبطالة، والقمع السياسي، والحروب تخلق شعورًا عميقًا بالذل والظلم. الخطاب المتطرف يستغل هذا الغضب ويوجهه نحو "عدو" محدد (الغرب، الدولة، الطوائف الأخرى)، واعدًا بالانتقام واستعادة الكرامة.
- أزمة الانتماء: العزلة الاجتماعية والإقصاء يدفعان الفرد للبحث عن "عائلة بديلة". الجماعات المتطرفة توفر هذا الدفء والانتماء ("الأخوة")، لكنه انتماء مشروط بالطاعة العمياء.
آليات التطرف: كيف يُغسل الدماغ؟
لا يستيقظ الشخص ليجد نفسه متطرفًا. إنها عملية تدريجية (Radicalization) تمر عبر مراحل:
1. العزل (Isolation)
الخطوة الأولى هي عزل الفرد عن محيطه الطبيعي (الأسرة، الأصدقاء، المجتمع) وعن مصادر المعلومات المتنوعة. يتم إقناعه بأن المجتمع "جاهلي" أو "فاسد" ويجب اعتزاله شعوريًا.
2. التلقين (Indoctrination)
في هذه العزلة، يتم حشو عقله بسردية واحدة أحادية الجانب. يتم استخدام نصوص دينية مجتزأة من سياقها لتبرير العنف والكراهية. يتم تصوير العالم كساحة صراع كوني بين "الحق المطلق" (نحن) و"الشر المطلق" (هم).
3. نزع الإنسانية (Dehumanization)
لكي يقتل المتطرف بدم بارد، يجب أن يقتنع بأن ضحيته ليست بشرًا يستحق الحياة، بل "كافر"، "مرتد"، أو "عدو لله". نزع الصفة الإنسانية عن الآخر يزيل الحاجز النفسي والأخلاقي الذي يمنع العنف.
التطرف الرقمي: التجنيد عن بعد
في الماضي، كان التجنيد يتم في أماكن سرية. اليوم، يتم عبر الإنترنت. الجماعات المتطرفة تستخدم ثقافة السوشيال ميديا ببراعة. تنتج فيديوهات عالية الجودة تشبه أفلام هوليوود، وتستخدم الألعاب الإلكترونية، وتستهدف الشباب المحبطين في غرف نومهم. الإنترنت يوفر "غرف صدى" تعزز الأفكار المتطرفة وتمنع وصول أي صوت معارض.
| الجانب | التدين المعتدل | التطرف الديني |
|---|---|---|
| النظرة للآخر | قبول الاختلاف والتعايش. | تكفير، إقصاء، وعداء. |
| فهم الحقيقة | متعددة الأوجه، تقبل النقاش. | مطلقة، واحدة، وأنا أمتلكها فقط. |
| الهدف | إصلاح الذات وخدمة المجتمع. | فرض الرأي بالقوة والسيطرة. |
| الوسيلة | الحوار، القدوة الحسنة. | العنف، الترهيب، والإكراه. |
خاتمة: المواجهة الشاملة
الحل الأمني (السجن والقتل) ضروري لمواجهة الإرهابيين المسلحين، لكنه لا يكفي للقضاء على "التطرف" كفكرة. الفكر لا يُحارب إلا بالفكر، والظلم لا يُعالج إلا بالعدالة.
مكافحة التطرف تتطلب استراتيجية شاملة: إصلاح الخطاب الديني، وتحسين التعليم لتعزيز التفكير النقدي، وتحقيق عدالة اجتماعية واقتصادية تمنح الشباب الأمل، وفتح مساحات للحوار السياسي السلمي. عندما يجد الشباب طرقًا مشروعة للتعبير عن غضبهم وتحقيق أحلامهم، لن يحتاجوا لتفجير أنفسهم ليسمعهم العالم.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل الفقر هو السبب الرئيسي للتطرف؟
الفقر عامل مساعد ("بيئة حاضنة") لكنه ليس السبب الوحيد أو المباشر. العديد من المتطرفين (مثل قادة القاعدة) جاؤوا من طبقات غنية ومتعلمة. الشعور بالظلم السياسي، والإهانة، والبحث عن المعنى، والتلاعب الأيديولوجي هي عوامل لا تقل أهمية عن الفقر.
ما الفرق بين التشدد (Fundamentalism) والتطرف العنيف؟
التشدد هو تبني تفسيرات دينية صارمة وحرفية، وقد يكون صاحبه منعزلاً لكنه غير عنيف. التطرف العنيف هو الانتقال من الفكر إلى الفعل، واستخدام العنف لفرض هذه الرؤية على الآخرين. ليس كل متشدد إرهابيًا، لكن التشدد هو الأرضية التي ينمو فيها الإرهاب.
كيف يمكن للأهل حماية أبنائهم من التطرف؟
من خلال بناء علاقة قوية ومفتوحة معهم، ومراقبة التغيرات السلوكية المفاجئة (العزلة، تغيير الأصدقاء، تبني خطاب عدائي)، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، وتشجيعهم على التفكير النقدي وطرح الأسئلة بدلاً من قبول الإجابات الجاهزة.
هل يمكن إعادة تأهيل المتطرفين؟
نعم، برامج "المناصحة" وإعادة التأهيل نجحت في العديد من الدول. تعتمد هذه البرامج على الحوار الفكري لتفكيك الشبهات، والدعم النفسي، والمساعدة في إعادة الاندماج الاجتماعي (عمل، زواج) لمنحهم فرصة لبدء حياة طبيعية بعيدًا عن العنف.
