السلوك المساعد للمجتمع: لماذا نساعد الآخرين؟
مقدمة: بذرة الخير في الطبيعة البشرية

لماذا نتبرع بالدم لمن لا نعرفه؟ أو نساعد جارًا مسنًا في حمل مشترياته؟ أو نشارك وجبتنا مع شخص جائع؟ هذه الأفعال النبيلة، التي تهدف بوضوح لمساعدة الآخرين دون انتظار مقابل فوري، تندرج تحت مفهوم أساسي في علم النفس الاجتماعي يُعرف بـ "السلوك المساعد للمجتمع". إن الغوص في طبيعة ودوافع السلوك المساعد للمجتمع (Prosocial Behavior) ليس مجرد تمرين فكري، بل هو مفتاح لفهم كيفية تماسك مجتمعاتنا، وكيف يمكننا أن نزرع بذور التعاون والتعاطف لنبني عالمًا أكثر إنسانية.
هل مساعدة الآخرين غريزة متأصلة فينا، أم أنها قيمة نكتسبها؟ ما الذي يحركنا للتصرف بإيثار حتى لو كلفنا ذلك وقتًا، جهدًا، أو مالًا؟ في هذا الدليل، سنستكشف مفهوم السلوك المساعد بعمق، نتعرف على أشكاله المتعددة، نحلل النظريات التي تسعى لتفسير جذوره، ونسلط الضوء على العوامل التي تشجعه أو تثبطه، لنكتشف في النهاية فوائده العظيمة على الفرد والمجتمع. استعد لاستكشاف أحد أروع جوانب الطبيعة البشرية: قوة العطاء.
ما هو السلوك المساعد للمجتمع (Prosocial Behavior)؟
السلوك المساعد للمجتمع (Prosocial Behavior) هو مصطلح شامل يصف أي فعل يقوم به الفرد طواعية بهدف إفادة شخص آخر، أو مجموعة، أو المجتمع بأسره. تتنوع هذه الأفعال بشكل كبير، من أبسط اللفتات كإمساك الباب لشخص خلفك، إلى تضحيات كبرى كإنقاذ حياة شخص أو التبرع بجزء كبير من الممتلكات.
ما يميز هذا السلوك هو النية الكامنة وراءه: نية المساعدة. قد تكون الدوافع متنوعة ومعقدة؛ فقد تنبع من تعاطف أصيل (إيثار)، أو من توقع المعاملة بالمثل لاحقًا، أو رغبة في تحسين السمعة، أو حتى لتخفيف شعور داخلي بالضيق عند رؤية معاناة الآخر (وهو دافع قد يبدو أنانيًا لكن نتيجته مساعدة الآخر).
من المهم هنا التفريق الدقيق بين السلوك المساعد والإيثار (Altruism). الإيثار يُعتبر قمة السلوك المساعد، حيث الدافع الرئيسي هو منفعة الآخر دون أي توقع لمكسب شخصي، بل قد ينطوي الأمر على تكلفة للذات. يمكن القول بأن كل سلوك إيثاري هو سلوك مساعد، ولكن العكس ليس صحيحًا دائمًا.
أنواع السلوك المساعد للمجتمع: قائمة بأشكال العطاء
يتجلى السلوك المساعد في صور عديدة في تفاعلاتنا اليومية. إليك أبرزها:
- المساعدة المباشرة (Helping): تقديم العون لشخص في موقف صعب (كمساعدة شخص تعرض لحادث).
- المشاركة (Sharing): تقاسم الموارد، سواء كانت مادية (طعام، مال) أو غير مادية (وقت، معرفة).
- التعاون (Cooperating): العمل المشترك مع الآخرين لتحقيق هدف يعود بالنفع على الجميع.
- التبرع (Donating): منح المال أو الموارد لقضايا إنسانية أو منظمات خيرية.
- التطوع (Volunteering): إهداء الوقت والجهد لدعم قضية أو منظمة دون مقابل مادي.
- المواساة والتعاطف (Comforting/Sympathizing): تقديم الدعم النفسي والعاطفي لمن يمرون بظروف صعبة.
- الدفاع عن الآخرين (Defending Others): حماية شخص يتعرض للظلم أو الاعتداء.
- الالتزام بالأعراف الاجتماعية (Following Social Norms): اتباع القواعد التي تحافظ على النظام وتسهل التفاعل الاجتماعي (كالانتظام في الصف)، والذي يُعد مساعدة غير مباشرة للمجتمع.
غالبًا ما تتداخل هذه الأنواع، لكنها تعكس معًا ثراء وتنوع السلوك الإنساني الإيجابي.
لماذا نساعد الآخرين؟ نظريات تفسير السلوك المساعد للمجتمع
سؤال "لماذا نساعد؟" شغل الفلاسفة والعلماء لقرون. تطورت عدة نظريات رئيسية تقدم تفسيرات مختلفة، وإن كانت متكاملة أحيانًا:
1. منظور علم النفس التطوري (Evolutionary Psychology)
يرى هذا المنظور أن السلوك المساعد تطور عبر آلاف السنين لأنه يعزز فرص بقاء جيناتنا. الآليتان الرئيسيتان هنا هما:
- اختيار القرابة (Kin Selection): نميل غريزيًا لمساعدة أقاربنا الذين نتشارك معهم نسبة عالية من الجينات. بمساعدتهم، نضمن بشكل غير مباشر استمرار جيناتنا.
- معيار المعاملة بالمثل (Norm of Reciprocity): تطورت لدينا توقعات متبادلة للمساعدة. نساعد الآخرين اليوم، ونتوقع (غالبًا ضمنيًا) أن يساعدونا غدًا. هذا التبادل ضروري لبقاء المجموعات المتعاونة.
2. نظرية التبادل الاجتماعي (Social Exchange Theory)
تفترض هذه النظرية أننا في تفاعلاتنا الاجتماعية، بما فيها المساعدة، نقوم بحسابات (غالبًا سريعة وغير واعية) للتكاليف والمنافع. نسعى لتعظيم مكاسبنا (التقدير الاجتماعي، الشعور بالرضا، رد الجميل مستقبلًا) وتقليل تكاليفنا (الوقت، الجهد، المال، المخاطرة).
نحن نساعد عندما نتوقع أن صافي النتيجة سيكون إيجابيًا لنا. هذا لا يعني أننا أنانيون بالضرورة، فالشعور الداخلي بالرضا هو مكسب بحد ذاته، لكن النظرية تؤكد على وجود حسابات نفعية حتى في أفعال الخير.
3. فرضية التعاطف - الإيثار (Empathy-Altruism Hypothesis)
يقترح دانيال باتسون أن الدافع للمساعدة يمكن أن يكون إيثاريًا بحتًا. عندما نشعر بـ التعاطف (Empathy) تجاه شخص يعاني – أي عندما نضع أنفسنا مكانه ونتفهم مشاعره – فإن دافعنا للمساعدة يصبح هو تخفيف معاناة هذا الشخص، بغض النظر عن أي مكاسب شخصية قد نحصل عليها. إذا غاب التعاطف، قد نساعد لأسباب أخرى (كتجنب الشعور بالذنب)، ولكن التعاطف هو مفتاح الإيثار الحقيقي.
"سواء كان الدافع تطوريًا، أو نفعيًا، أو نابعًا من التعاطف الخالص، فإن السلوك المساعد للمجتمع يمثل جانبًا أساسيًا ومعقدًا في التجربة الإنسانية."
ما الذي يؤثر على قرارنا بالمساعدة؟ (عوامل مؤثرة)
قرار المساعدة ليس قرارًا بسيطًا دائمًا، بل يتأثر بتفاعل معقد بين عوامل شخصية وموقفية:
عوامل شخصية:
- الحالة المزاجية: الأشخاص السعداء يميلون للمساعدة أكثر (تأثير الشعور الجيد-الفعل الجيد). والمثير للاهتمام أن الشعور بالذنب أحيانًا يدفعنا أيضًا للمساعدة لتخفيف هذا الشعور. يرتبط هذا بكيفية تأثير العواطف على السلوك الاجتماعي.
- سمات الشخصية: الأفراد الذين يتمتعون بمستويات عالية من التعاطف، الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، والإيمان بأن العالم مكان عادل، يميلون لتقديم المساعدة أكثر من غيرهم.
- الجنس (النوع الاجتماعي): تظهر اختلافات طفيفة حسب الموقف. الرجال قد يكونون أكثر استعدادًا للمساعدة في المواقف البطولية أو الخطرة، بينما النساء قد يكن أكثر ميلًا للمساعدة التي تتطلب رعاية ودعمًا عاطفيًا طويل الأمد.
- القيم والمعتقدات الدينية والأخلاقية: التعاليم الدينية والأخلاقية غالبًا ما تحث على مساعدة الآخرين، وقد يكون الأشخاص المتدينون أكثر انخراطًا في الأنشطة التطوعية والخيرية المنظمة.
عوامل موقفية:
-
وجود الآخرين (تأثير المتفرج - Bystander Effect): بشكل قد
يبدو غريبًا، كلما زاد عدد الأشخاص الحاضرين في موقف طارئ، قلت احتمالية تدخل
أي فرد منهم للمساعدة. يعود ذلك لعدة أسباب نفسية:
- انتشار المسؤولية: كل شخص يفترض أن شخصًا آخر سيقوم بالمبادرة.
- الجهل الجماعي: يراقب الناس ردود أفعال بعضهم البعض، وإذا لم يتحرك أحد، يستنتجون أن الأمر ليس خطيرًا.
- الخوف من التقييم: الخوف من الإحراج أو الظهور بمظهر غير لائق إذا تبين أن الموقف لم يكن يتطلب تدخلًا.
- وضوح الموقف: كلما كانت الحاجة للمساعدة واضحة ولا تحتمل التأويل، زادت احتمالية المساعدة.
- خصائص طالب المساعدة: نميل أكثر لمساعدة من نعتبرهم مشابهين لنا، أو من نعتقد أنهم لا يستحقون معاناتهم (أي أنها ليست نتيجة إهمالهم).
- ضيق الوقت: الانشغال والعجلة يجعلاننا أقل انتباهًا لمن حولنا وأقل استعدادًا للتوقف للمساعدة.
- البيئة (ريفية/حضرية): غالبًا ما يكون سكان المناطق الأقل ازدحامًا (الريف والبلدات الصغيرة) أكثر ميلًا للمساعدة من سكان المدن الكبرى، ربما بسبب شعور أقوى بالانتماء للمجتمع.
فوائد السلوك المساعد للمجتمع: لماذا هو مهم؟
العطاء ومساعدة الآخرين ليس مجرد فعل أخلاقي، بل له فوائد ملموسة وعميقة:
- للمُستقبِل: تلبية الحاجة وتخفيف المعاناة بشكل مباشر.
-
للمُقدِّم (المُساعِد):
- تحسين الصحة النفسية والجسدية: يرتبط العطاء بتقليل التوتر، تحسين المزاج، زيادة الرضا عن الحياة، وقد يساهم في إطالة العمر (ظاهرة "نشوة المساعدة").
- تعزيز تقدير الذات والشعور بالمعنى: تمنح المساعدة شعورًا بالكفاءة والأهمية والهدف.
- تقوية الروابط الاجتماعية: تساهم في بناء علاقات اجتماعية قوية وتوسيع دائرة المعارف الداعمة.
- تحسين السمعة الاجتماعية: يُنظر للأفراد المساعدين باحترام وتقدير.
-
للمجتمع:
- تعزيز رأس المال الاجتماعي: يبني جسور الثقة والتعاون والمعاملة بالمثل، مما يجعل المجتمع أكثر قوة وتماسكًا.
- مواجهة التحديات الاجتماعية: يساهم في حل المشكلات من خلال التطوع ودعم المبادرات الهادفة.
- خلق بيئة إيجابية وآمنة: يعزز الشعور بالانتماء والأمان والدعم المتبادل بين أفراد المجتمع.
كيف نعزز السلوك المساعد للمجتمع؟ (إرشادات عملية)
يمكن لكل منا أن يلعب دورًا في نشر ثقافة العطاء والتعاون. إليك بعض الأفكار:
- كن قدوة (Modeling): الأفعال أبلغ من الأقوال. عندما نمارس المساعدة بأنفسنا، نلهم الآخرين (خاصة الأطفال) لفعل المثل.
- تنمية التعاطف: شجع على محاولة فهم مشاعر الآخرين ووجهات نظرهم. القراءة، مشاهدة الأفلام الهادفة، والحوار المفتوح حول مشاعر الآخرين يمكن أن ينمي هذه المهارة.
- التأكيد على المسؤولية الاجتماعية: غرس فكرة أننا جميعًا جزء من مجتمع واحد وأن أفعالنا تؤثر على الآخرين.
- تقدير السلوك المساعد (بحكمة): الثناء الصادق والتقدير المعنوي أكثر فعالية من المكافآت المادية الكبيرة التي قد تقلل الدافع الداخلي. ركز على الشعور الجيد الذي يصاحب المساعدة.
- التوعية بتأثير المتفرج: مجرد معرفة هذه الظاهرة النفسية يجعلنا أكثر وعيًا وميلًا للتدخل عندما نكون شهودًا على موقف يتطلب المساعدة.
- ربط المساعدة بالهوية: عندما يساعد شخص ما، خاصة الطفل، يمكن تعزيز ذلك بقول "أنت شخص لطيف ومُحب للمساعدة" بدلاً من مجرد "شكرًا".
- توفير فرص للمساعدة: شجع على الانخراط في الأنشطة التطوعية، مساعدة الجيران، أو دعم المبادرات المجتمعية.
الخلاصة: قوة العطاء في تشكيل عالمنا
إن السلوك المساعد للمجتمع (Prosocial Behavior) هو تعبير رائع عن قدرتنا كبشر على تجاوز الأنانية الضيقة نحو التعاون والتعاطف والعطاء. سواء كانت جذوره في تطورنا البيولوجي، أو في حساباتنا النفعية، أو في ومضات التعاطف الإيثاري، فإن هذه الأفعال هي التي تنسج خيوط مجتمعاتنا وتقوي روابطنا الإنسانية. لقد استكشفنا معًا تنوعه، نظرياته، عوامله، وفوائده العميقة.
في عالم يواجه تحديات متزايدة، يصبح فهمنا للسلوك المساعد وتعزيزه ضرورة ملحة. بتنمية التعاطف في قلوبنا، وتقديم القدوة الحسنة، وبناء ثقافة تحتفي بالعطاء، يمكننا جميعًا أن نساهم في خلق مجتمعات أكثر دفئًا، ودعمًا، وترابطًا. فكل لفتة مساعدة، مهما بدت صغيرة، هي استثمار في مستقبل أكثر إشراقًا وإنسانية.
نود أن نسمع صوتك: ما هو السلوك المساعد الذي تراه الأكثر أهمية في مجتمعك اليوم؟ وكيف تساهم، أو ترغب في المساهمة، في تعزيزه؟ شاركنا أفكارك وتجاربك في التعليقات أدناه!
الأسئلة الشائعة (FAQ)
1. ما هو السلوك المساعد للمجتمع؟
هو أي فعل طوعي يقوم به شخص بهدف إفادة شخص آخر أو مجموعة أو المجتمع ككل. يشمل ذلك المساعدة، المشاركة، التعاون، التبرع، التطوع، وتقديم الدعم العاطفي.
2. ما الفرق بين السلوك المساعد والإيثار؟
الإيثار هو شكل من أشكال السلوك المساعد حيث يكون الدافع الأساسي هو مساعدة الآخرين دون توقع أي فائدة شخصية، وقد يتضمن تكلفة على الذات. السلوك المساعد مصطلح أوسع قد تشمل دوافعه الإيثار أو توقع المعاملة بالمثل أو تحسين السمعة أو الشعور بالرضا.
3. لماذا يعتبر السلوك المساعد مهما؟
السلوك المساعد مهم لأنه يعزز الصحة النفسية والجسدية لمن يقدم المساعدة، ويوفر الدعم لمن يحتاجه، ويقوي الروابط الاجتماعية، ويزيد الثقة والتعاون في المجتمع، ويساهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا وإيجابية.
4. كيف يمكن تشجيع السلوك المساعد لدى الأطفال؟
يمكن تشجيعه من خلال كون الأهل قدوة حسنة، تعليم ومكافأة التعاطف والمشاركة، قراءة قصص حول المساعدة، إسناد السلوك الجيد لصفات الطفل ("أنت متعاون")، وإتاحة فرص لهم للمساعدة في المنزل والمجتمع.
5. ما هو تأثير المتفرج وكيف يمكن التغلب عليه؟
تأثير المتفرج هو ميل الأفراد لعدم التدخل للمساعدة في حالة طوارئ عند وجود أشخاص آخرين. يمكن التغلب عليه بإدراك وجود هذا التأثير، تحمل المسؤولية الشخصية، تفسير الموقف بوضوح كحالة طوارئ، وتوجيه طلب المساعدة لشخص محدد.