إنه يحدث خلف الأبواب المغلقة، وفي الشوارع المزدحمة، وفي أماكن العمل، وحتى في الفضاء الرقمي. إنه ليس مرضًا بيولوجيًا، وليس كارثة طبيعية، بل هو كارثة من صنع البشر تحصد أرواحًا وتدمر مستقبلًا أكثر من العديد من الحروب. نحن نتحدث عن العنف القائم على النوع (Gender-Based Violence - GBV)، وهو أي فعل مؤذٍ يُرتكب ضد شخص ما بناءً على نوعه الاجتماعي، وغالبًا ما تكون النساء والفتيات هن الضحايا الرئيسيات.
من منظور علم الاجتماع، هذا العنف ليس مجرد حوادث فردية ناتجة عن "غضب" أو "جنون" المعتدي. إنه أداة هيكلية للحفاظ على السيطرة والهيمنة. إنه اللغة القاسية التي يستخدمها النظام الأبوي لفرض قواعده ومعاقبة من يخرج عنها. هذا المقال هو محاولة لتفكيك هذه الآلية الوحشية، وفهم جذورها العميقة في ثقافتنا ومجتمعنا.
جبل الجليد: ما نراه وما لا نراه
عندما نفكر في العنف، غالبًا ما يتبادر إلى أذهاننا الضرب أو الاعتداء الجسدي. لكن هذا مجرد قمة جبل الجليد. العنف القائم على النوع يتخذ أشكالًا متعددة ومترابطة:
- العنف الجسدي: الضرب، الحرق، القتل (بما في ذلك ما يسمى "جرائم الشرف").
- العنف الجنسي: الاغتصاب، التحرش، الاستغلال الجنسي، والزواج القسري.
- العنف النفسي والعاطفي: الإهانة، التهديد، العزل الاجتماعي، والتحكم القسري (Gaslighting).
- العنف الاقتصادي: الحرمان من الموارد المالية، المنع من العمل أو التعليم، والسيطرة على الدخل، وهو ما يعيق تمكين المرأة.
- العنف الرقمي: المطاردة الإلكترونية، الابتزاز بصور خاصة، ونشر المعلومات الشخصية (Doxing).
لماذا يحدث؟ جذور الشجرة المسمومة
لا يحدث العنف في فراغ. إنه يتغذى من تربة اجتماعية وثقافية محددة:
1. اختلال موازين القوى (Power Imbalance)
السبب الجذري للعنف القائم على النوع هو عدم المساواة التاريخية بين الرجال والنساء. في المجتمعات التي يُنظر فيها للرجل على أنه "الأعلى" والمرأة "الأدنى" أو "التابعة"، يصبح العنف وسيلة مقبولة (ضمنيًا أو صراحة) لتأديب المرأة وإبقائها في مكانها. إنه تعبير عن السلطة.
2. الثقافة وتطبيع العنف
تساهم الأعراف الاجتماعية في تطبيع العنف. عبارات مثل "ضرب الحبيب زبيب" أو "الرجل لا يُعاب" تخلق ثقافة تسامح مع المعتدي وتلوم الضحية ("ماذا كانت ترتدي؟"، "لماذا خرجت؟"). كما تلعب صورة المرأة في الإعلام دورًا خطيرًا عندما تظهر المرأة كشيء (تشييء) أو كضحية مستحقة للعنف.
3. الإفلات من العقاب (Impunity)
عندما تكون القوانين ضعيفة، أو عندما تتردد الشرطة والقضاء في التدخل في "الشؤون العائلية"، فإن الرسالة التي تصل للمعتدي هي: "يمكنك أن تفعل ذلك وتنجو بفعلتك". غياب الردع القانوني هو وقود للعنف.
الآثار المدمرة: دائرة لا تنتهي
آثار العنف لا تتوقف عند الكدمات الجسدية. إنها تمتد لتشمل:
- الآثار النفسية: الاكتئاب، القلق، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ومحاولات الانتحار.
- الآثار الصحية: الإصابات الجسدية، الأمراض المنقولة جنسيًا، والحمل غير المرغوب فيه.
- الآثار الاقتصادية: فقدان الإنتاجية، تكاليف الرعاية الصحية والقانونية، وإعاقة التنمية الوطنية.
- الآثار الاجتماعية: تفكك الأسر، ونقل العنف للأطفال (الذين يشهدون العنف في المنزل غالبًا ما يصبحون معتدين أو ضحايا في المستقبل)، مما يخلق دورة عنف عابرة للأجيال.
| المستوى | الإجراء المطلوب (الوقاية) | الإجراء المطلوب (الاستجابة) |
|---|---|---|
| الفردي | التعليم، الوعي بالحقوق، وبناء الثقة بالنفس. | الدعم النفسي، والتمكين الاقتصادي للناجيات. |
| المجتمعي | تغيير الأعراف الاجتماعية، حملات توعية، إشراك الرجال. | توفير ملاجئ آمنة، وخطوط ساخنة، وشبكات دعم. |
| المؤسسي/القانوني | سن قوانين تجرم العنف، تدريب الشرطة والقضاء. | المحاسبة القانونية الصارمة، وضمان الوصول للعدالة. |
خاتمة: الصمت هو الشريك
إن العنف القائم على النوع يزدهر في الظلام والصمت. كلما صمتنا، كلما منحنا المعتدي قوة أكبر. إن كسر هذا الصمت هو الخطوة الأولى نحو الحل. هذا يتطلب شجاعة من الضحايا للحديث، وشجاعة من المجتمع للتصديق والدعم، وشجاعة من الدولة لسن وتطبيق القوانين.
إن القضاء على هذا العنف ليس "قضية نسائية"، بل هو قضية إنسانية ووطنية. مجتمع لا تشعر فيه نصف سكانه بالأمان هو مجتمع مشلول وغير قادر على التقدم. إن النسوية العربية والحركات الحقوقية تقود هذا النضال، لكنه يحتاج إلى تضافر جهود الجميع لبناء ثقافة "عدم التسامح مطلقًا" مع العنف.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
لماذا لا تترك النساء العلاقات العنيفة ببساطة؟
هذا سؤال شائع ولكنه يلوم الضحية. ترك العلاقة العنيفة هو أخطر مرحلة وقد يؤدي للقتل. هناك حواجز هائلة تمنع المرأة من المغادرة: الخوف، الاعتماد الاقتصادي، الخوف من فقدان الأطفال، الضغط الاجتماعي والعائلي، والأمل الكاذب بأن الشريك سيتغير.
هل الرجال يتعرضون للعنف القائم على النوع؟
نعم، يمكن أن يتعرض الرجال للعنف، لكن الغالبية العظمى من الضحايا عالميًا هم من النساء والفتيات، وذلك بسبب البنية الأبوية للمجتمع. العنف ضد الرجال غالبًا ما يكون مرتبطًا بالنزاعات أو الجريمة، بينما العنف ضد النساء غالبًا ما يكون منزليًا وجنسيًا.
ما هو دور الرجال في مكافحة هذا العنف؟
دورهم حاسم. يجب على الرجال أن يكونوا حلفاء نشطين: أن يتحدثوا ضد العنف، أن يرفضوا النكات والتعليقات المتحيزة جنسيًا، أن يعلموا أبناءهم احترام النساء، وأن يحاسبوا أقرانهم المعتدين. الصمت الذكوري يعتبر تواطؤًا.
كيف أثرت جائحة كورونا على العنف القائم على النوع؟
لقد وصفت الأمم المتحدة ما حدث بأنه "جائحة الظل". أدى الحجر المنزلي والضغوط الاقتصادية إلى ارتفاع حاد في حالات العنف المنزلي في جميع أنحاء العالم، حيث حُبست النساء مع معنفيهم وفقدن الوصول إلى شبكات الدعم والخدمات.
