افتح التلفزيون أو تصفح مجلة، وماذا ترى؟ غالبًا ما ترى نساءً بمقاييس جمال مستحيلة يروجن لمستحضرات التجميل، أو ربات بيوت مهووسات بنظافة الملابس، أو ضحايا ينتظرن الإنقاذ. وعلى الجانب الآخر، قد ترى بطلات خارقات ينقذن العالم، أو سياسيات يدرن الأزمات. هذه الصور المتناقضة ليست مجرد ترفيه بريء؛ إنها "مرايا سحرية" تعكس وتشكل في آن واحد كيف نرى نصف المجتمع.
إن صورة المرأة في الإعلام هي واحدة من أقوى أدوات التنشئة الاجتماعية في العصر الحديث. الإعلام لا يخبرنا فقط "ماذا نشتري"، بل يخبرنا "من نكون" و"كيف نتصرف". هذا المقال هو تحليل سوسيولوجي لهذه الصور، لنفهم كيف تساهم في ترسيخ اللامساواة الجندرية أو في تحديها، وكيف تحول جسد المرأة وصوتها إلى ساحة معركة رمزية.
آليات التنميط: كيف يختزل الإعلام المرأة؟
تعتمد وسائل الإعلام، خاصة التقليدية منها، على "الصور النمطية" (Stereotypes) لتبسيط الواقع وتقديم رسائل سريعة. بالنسبة للمرأة، غالبًا ما تدور هذه الصور حول ثلاثة محاور اختزالية:
1. التشييء الجنسي (Sexual Objectification)
هذه هي الآلية الأكثر شيوعًا في الإعلانات والفيديو كليب. يتم تقديم المرأة ليس كإنسان كامل له عقل ومشاعر، بل كـ "جسد" أو "أداة" لإمتاع النظر الذكوري (Male Gaze). يتم تقطيع أوصال جسدها (التركيز على الشفاه، الأرجل) واستخدامه لبيع كل شيء من السيارات إلى البرغر. هذا التشييء ينزع عن المرأة إنسانيتها ويبرر العنف الرمزي والجسدي ضدها.
2. الحصر في الدور المنزلي
رغم دخول المرأة بقوة إلى سوق العمل، لا تزال الدراما والإعلانات تربط المرأة بشكل أساسي بالفضاء الخاص (المنزل). تظهر المرأة قلقة بشأن البقع على الملابس أو طعام العائلة، بينما يظهر الرجل في الفضاء العام كخبير أو قائد. هذا يرسخ فكرة أن نجاح المرأة الحقيقي هو في بيتها، وأن عملها الخارجي ثانوي.
3. الضحية الأبدية
في الأخبار والدراما، غالبًا ما تظهر المرأة في دور الضحية السلبية (للحرب، للجريمة، للعنف الأسري) التي تحتاج إلى حماية. نادرًا ما تظهر كفاعلة قوية ومبادرة في تغيير واقعها. هذا يعزز صورة المرأة ككائن ضعيف ومعتمد على الآخرين.
الإعلام الجديد: فرصة للتمرد أم إعادة إنتاج للقيود؟
مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تغيرت المعادلة. لم تعد الصورة حكرًا على المخرجين والمنتجين، بل أصبحت النساء أنفسهن صانعات للصورة. لكن النتيجة مزدوجة:
- الوجه المشرق (التمكين): استخدمت النساء منصات مثل تويتر وانستغرام لإطلاق حملات عالمية (مثل #MeToo) فضحت التحرش وغيرت القوانين. كما استخدمنها لتقديم صور بديلة وواقعية عن أجسادهن وحياتهن، متحديات معايير الجمال المستحيلة.
- الوجه المظلم (الضغط): في المقابل، خلقت "ثقافة المؤثرين" ضغطًا هائلاً على الفتيات للوصول إلى معايير جمالية غير واقعية ومفلترة. كما أصبحت المنصات ساحة لـ الإدمان الإلكتروني والتنمر الذي يستهدف النساء بشكل خاص.
نظرية الغرس الثقافي: كيف تصبح الشاشة واقعًا؟
تشرح نظرية "الغرس الثقافي" (Cultivation Theory) لجورج جيربنر كيف يؤثر التعرض الطويل للإعلام على إدراكنا للواقع. إذا نشأ طفل وهو يرى النساء في التلفزيون يعملن فقط كممرضات أو سكرتيرات، فإنه سيعتقد لا شعوريًا أن هذه هي "الطبيعة" وأن النساء لا يصلحن ليكونن طبيبات أو مديرات. الإعلام "يغرس" فينا حدود الممكن والمقبول، ويجعل اللامساواة تبدو وكأنها أمر طبيعي ومسلم به.
| الجانب | الإعلام التقليدي (تلفزيون/سينما) | الإعلام الحديث (سوشيال ميديا) |
|---|---|---|
| صانع الصورة | نخبة ذكورية غالبًا (مخرجون، معلنون). | النساء أنفسهن (مستخدمات، مؤثرات). |
| التركيز | الجسم المثالي، الدور المنزلي. | أسلوب الحياة، التعبير عن الذات (مع ضغط الجمال). |
| التنوع | محدود (نموذج واحد للجمال والنجاح). | واسع (تمثيل لأعراق وأجسام وخلفيات مختلفة). |
| التأثير | سلبي (تعزيز القوالب النمطية). | مزدوج (تمكين ومناصرة + ضغط نفسي ومقارنة). |
خاتمة: تحطيم المرآة المشوهة
إن تغيير واقع المرأة يتطلب تغيير صورتها في الإعلام. لا يمكننا تحقيق تمكين المرأة في الواقع ونحن نستهلك يوميًا صورًا تقلل من شأنها وتشيّئها. المعركة من أجل صورة عادلة هي معركة من أجل الحقيقة.
نحن بحاجة إلى "محو أمية إعلامية" نقدية، تعلمنا كيف نفكك الصور التي نراها ونسأل: من صنعها؟ ولمصلحة من؟ وبحاجة أيضًا إلى دعم الأصوات النسائية المستقلة التي تروي قصصًا حقيقية ومتنوعة، لتستبدل المرآة المشوهة بمرآة تعكس قوة المرأة وإنسانيتها الكاملة.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل يؤثر الإعلام حقًا على سلوك الفتيات الصغيرات؟
نعم، وبشدة. الفتيات يتعلمن "كيف يكن نساء" من خلال مراقبة النماذج المقدمة في الإعلام. إذا رأين الأميرات ينتظرن الأمير، فسوف ينتظرن. وإذا رأين عالمات ورائدات فضاء، فسوف يحلمن بأن يكن كذلك. الإعلام يوسع أو يضيق أفق أحلامهن.
ما هو "اختبار بيتشدل" (Bechdel Test)؟
هو اختبار بسيط لقياس التمثيل النسوي في الأفلام. لكي ينجح الفيلم، يجب أن يحتوي على: (1) امرأتين على الأقل، (2) تتحدثان مع بعضهما البعض، (3) عن موضوع غير "الرجل". المثير للصدمة أن عددًا هائلاً من الأفلام الشهيرة يفشل في هذا الاختبار البسيط، مما يكشف عن تهميش دور المرأة في السرد القصصي.
كيف تختلف صورة المرأة في الإعلام العربي؟
تعاني من ازدواجية حادة. من جهة، هناك الدراما التي تكرس صورة المرأة الخاضعة أو الماكرة. ومن جهة أخرى، هناك الفضائيات الإخبارية التي تظهر إعلاميات قويات ومحترفات. الصراع بين الصورة التقليدية والصورة الحديثة للمرأة هو جزء من التغير الاجتماعي في المجتمعات العربية.
هل الإعلانات هي المسؤول الوحيد عن معايير الجمال غير الواقعية؟
ليست الوحيدة، لكنها المحرك الأقوى. صناعة التجميل والأزياء تعتمد في أرباحها على إشعار المرأة بالنقص (بشرتك ليست صافية بما يكفي، وزنك ليس مثاليًا) لكي تبيع لها "الحل". إنها تبيع القلق لتبيع المنتج.
