في عالم يوصف غالبًا بالأنانية والفردانية، يبرز مشهد متناقض وملهم: ملايين الشباب حول العالم يخصصون وقتهم وجهدهم وطاقتهم للعمل بلا مقابل مادي. سواء كانوا ينظفون الشواطئ، أو يعلمون الأطفال المحرومين، أو يديرون حملات رقمية للتوعية، فإن الشباب والعمل التطوعي يشكلان ثنائيًا قويًا يعيد تعريف معنى المواطنة في القرن الحادي والعشرين.
لكن لماذا يتطوعون؟ هل هو مجرد "فعل خير" تقليدي، أم أن هناك دوافع أعمق وأكثر تعقيدًا؟ من منظور علم الاجتماع، التطوع الشبابي ليس مجرد خدمة اجتماعية، بل هو "ساحة" يتشابك فيها البحث عن المعنى، وبناء الهوية، والرغبة في التغيير السياسي. هذا المقال هو استكشاف لهذه الدوافع الخفية، وكيف يتحول التطوع من "واجب" إلى "شغف" و"أداة تمكين".
دوافع التطوع: لماذا يعمل الشباب بالمجان؟
إذا نظرنا إلى التطوع من خلال عدسة سوسيولوجية، نجد أنه يلبي احتياجات متعددة تتجاوز الرغبة البسيطة في المساعدة:
1. البحث عن المعنى والانتماء
في ظل القلق الوجودي الذي يعاني منه الكثير من الشباب، يوفر التطوع ترياقًا قويًا. إنه يمنحهم شعورًا بالهدف (Purpose) يتجاوز ذواتهم، ويشعرهم بأنهم جزء من شيء أكبر. كما أنه يوفر "مجتمعًا" بديلًا، حيث يلتقون بأشخاص يشاركونهم نفس القيم والاهتمامات، مما يساعد في كسر عزلة المدن الحديثة.
2. بناء الهوية والمهارات (رأس المال البشري)
في سوق عمل تنافسي وصعب، يرى الشباب التطوع كفرصة استراتيجية. إنه ليس مجرد عطاء، بل هو استثمار في الذات. من خلال التطوع، يكتسبون مهارات قيادية، ويبنون شبكات علاقات، ويختبرون مسارات مهنية محتملة. إنه جزء من مشروع بناء الهوية الشبابية المستقلة والفاعلة.
3. التعبير السياسي والمواطنة
كما ناقشنا في مقال مشاركة الشباب في العمل السياسي، يبتعد الشباب عن السياسة الحزبية التقليدية. التطوع أصبح هو "السياسة الجديدة". بدلاً من التصويت لسياسي يعد بالتغيير، يفضل الشباب "صناعة التغيير" بأيديهم من خلال العمل المباشر في قضايا تهمهم مثل البيئة أو حقوق الإنسان.
تحولات التطوع: من "الجمعية" إلى "الحركة"
لم تتغير الدوافع فقط، بل تغير شكل التطوع نفسه بشكل جذري:
- من المؤسسي إلى المرن: يبتعد الشباب عن التطوع التقليدي طويل الأمد في المؤسسات الهرمية الكبيرة (مثل الصليب الأحمر). يفضلون "التطوع العرضي" (Episodic Volunteering) أو المشاريع قصيرة الأمد والمرنة التي لا تتطلب التزامًا طويلًا وتناسب نمط حياتهم المتغير.
- من المحلي إلى الرقمي: ظهر "التطوع الإلكتروني" (E-volunteering). يمكن لشاب في القاهرة أن يترجم وثائق لمنظمة في نيويورك، أو يدير حسابات تواصل اجتماعي لحملة بيئية عالمية. هذا وسع آفاق التطوع وجعله عابرًا للحدود.
- من الخدمة إلى المناصرة: لم يعد التطوع يقتصر على تقديم الخدمات (مثل توزيع الطعام)، بل توسع ليشمل "المناصرة" (Advocacy) وتغيير السياسات. الشباب يريدون معالجة "أسباب" المشاكل، وليس فقط أعراضها.
| الجانب | التطوع التقليدي (الجيل الأكبر) | التطوع المعاصر (الشباب) |
|---|---|---|
| الدافع الأساسي | الواجب الديني أو الوطني، الإحسان. | تحقيق الذات، التغيير الاجتماعي، اكتساب المهارات. |
| الهيكل التنظيمي | رسمي، هرمي، ومؤسسي. | أفقي، شبكي، ومبادرات ذاتية. |
| الالتزام | طويل الأمد ومنتظم. | قصير الأمد، مرن، وقائم على المشاريع. |
| مجال العمل | الخدمات الاجتماعية المباشرة. | متنوع (حقوقي، بيئي، رقمي، ثقافي). |
خاتمة: التطوع كمدرسة للحياة
إن انخراط الشباب في العمل التطوعي ليس مجرد إضافة لطيفة لسيرتهم الذاتية، بل هو تجربة تحويلية عميقة. إنه المدرسة التي يتعلمون فيها معنى المسؤولية، وقوة العمل الجماعي، وإمكانية التغيير. في عالم يضغط عليهم ليكونوا مستهلكين سلبيين، يمنحهم التطوع الفرصة ليكونوا منتجين وفاعلين.
إن دعم وتشجيع هذا التطوع ليس مسؤولية الشباب وحدهم، بل هو مسؤولية المجتمع بأسره. يجب على المؤسسات أن تتكيف مع الأنماط الجديدة للتطوع، وأن توفر للشباب مساحات حقيقية للقيادة والابتكار، وليس فقط لتنفيذ الأوامر. عندما نمنح الشباب الفرصة لخدمة مجتمعهم بطريقتهم الخاصة، فإننا لا نساعدهم فقط، بل نساعد المجتمع كله على التجدد والازدهار.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل يعتبر التطوع "مضيعة للوقت" في ظل الضغوط الدراسية؟
على العكس تمامًا. الدراسات تظهر أن الطلاب الذين يتطوعون غالبًا ما يكون لديهم أداء أكاديمي أفضل، ومهارات تنظيم وقت أعلى، وصحة نفسية أقوى. التطوع يمنح توازنًا ضروريًا للحياة الدراسية ويقلل من التوتر.
كيف يمكنني البدء في التطوع إذا لم يكن لدي وقت كافٍ؟
ابدأ بـ "التطوع الصغير" (Micro-volunteering). هناك العديد من الفرص التي تتطلب دقائق فقط، مثل توقيع العرائض، أو المشاركة في استطلاعات رأي بحثية، أو المساعدة في تنظيم حدث ليوم واحد. المهم هو الاستمرارية والنية، وليس فقط عدد الساعات.
هل يجب أن يكون التطوع في مجال تخصصي؟
ليس بالضرورة. التطوع في مجال تخصصك مفيد لبناء الخبرة، لكن التطوع في مجال مختلف تمامًا يمكن أن يوسع آفاقك، ويعلمك مهارات جديدة، ويجعلك تكتشف شغفًا لم تكن تعرفه. التنوع هو مفتاح النمو.
ما هو الفرق بين التطوع والتدريب المهني (Internship)؟
التدريب المهني يركز بشكل أساسي على تعلم مهارات العمل واكتساب خبرة مهنية، وقد يكون مدفوعًا أو غير مدفوع. أما التطوع، فهدفه الأساسي هو خدمة قضية اجتماعية أو مساعدة الآخرين، والمكسب الشخصي (المهارات) هو نتيجة ثانوية وليس الهدف الوحيد.
