للقرون، كان الخطاب الديني يُلقى من فوق المنابر، في أجواء من الخشوع والوقار، لجمهور حاضر ومستمع بصمت. اليوم، أصبح الخطاب الديني "محتوى" (Content) يتنافس مع مقاطع الرقص والطهي على شاشات هواتفنا. الداعية لم يعد بحاجة لمنبر خشبي، بل لقناة يوتيوب وإضاءة جيدة.
إن تأثير الإعلام على الخطاب الديني هو زلزال معرفي وثقافي. الإعلام ليس مجرد "ناقل" محايد للرسالة الدينية، بل هو "قالب" يعيد تشكيلها. هذا المقال هو تحليل سوسيولوجي لهذا التحول: كيف غيرت الشاشة لغة الدين؟ وكيف أثرت "نجومية" الدعاة الجدد على جوهر الإيمان؟ وهل نحن أمام "تسليع" للدين؟
من الوعظ إلى "التوك شو": تحول الشكل والمضمون
يفرض الإعلام (خاصة التلفزيون والسوشيال ميديا) منطقه الخاص على أي رسالة تمر من خلاله، والدين ليس استثناءً:
1. التبسيط والاختزال
الإعلام يكره التعقيد ويحب الشعارات. لذا، تحول الخطاب الديني من دروس فقهية وعقائدية عميقة تتطلب وقتًا وجهدًا للفهم، إلى "كبسولات" دينية سريعة، وفتاوى "تيك أواي"، ونصائح روحية مبسطة تناسب إيقاع نمط الحياة السريع. الخطر هنا هو تسطيح الدين واختزاله في قشور سطحية.
2. الترفيه والنجومية
لجذب الجمهور في سوق إعلامي مزدحم، أصبح الداعية مضطرًا لأن يكون "مؤديًا" بارعًا. ظهرت ظاهرة "الدعاة النجوم" (Televangelists) الذين يستخدمون لغة الجسد، والمؤثرات الصوتية، والقصص العاطفية المؤثرة. تحول الدين إلى نوع من "الترفيه الروحي"، حيث يقاس نجاح الداعية بعدد المشاهدات واللايكات، وليس بعمق علمه.
3. التخصيص والفردانية
يخاطب الإعلام الجديد الفرد مباشرة. الخطاب الديني الجديد يركز بشكل متزايد على "الخلاص الفردي"، والراحة النفسية، وتحقيق الذات، مبتعدًا أحيانًا عن القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى. هذا يتماشى مع صعود الفردانية وأنماط التدين الحديث.
سقوط المرجعية الواحدة: فوضى الفتاوى
في عصر ما قبل الإعلام الرقمي، كانت المؤسسة الدينية الرسمية تحتكر الفتوى والتفسير. الإنترنت كسر هذا الاحتكار. اليوم، أي شخص يملك كاميرا ومعرفة دينية بسيطة (أو حتى بدونها) يمكنه أن يفتي ويجذب ملايين المتابعين.
هذا التعدد خلق "سوقًا حرة" للأفكار الدينية، وهو أمر إيجابي من حيث التنوع، لكنه خلق أيضًا فوضى وحيرة. الجمهور، وخاصة الشباب، يجدون أنفسهم أمام سيل من الفتاوى المتناقضة، مما يضعف سلطة النص الديني ويجعل الدين عرضة للتلاعب السياسي والأيديولوجي.
الإعلام كساحة للصراع الديني
لم يعد الإعلام وسيلة للدعوة فقط، بل أصبح ساحة للمعركة:
- الاستقطاب الطائفي: تستخدم بعض القنوات الفضائية والحسابات الرقمية الخطاب الديني لتأجيج الكراهية الطائفية والمذهبية، مستغلة آليات الخوارزميات التي تفضل المحتوى المثير للجدل.
- التطرف والتجنيد: كما ناقشنا في مقال التطرف الديني، تستخدم الجماعات المتطرفة الإعلام الرقمي ببراعة لغسل أدمغة الشباب وتجنيدهم، مقدمة لهم خطابًا دينيًا حماسيًا ومصورًا بتقنيات سينمائية عالية.
| الجانب | الخطاب التقليدي (المسجد/الكنيسة) | الخطاب الإعلامي (تلفزيون/إنترنت) |
|---|---|---|
| المكان | مقدس ومحدد (دور العبادة). | افتراضي ومتاح في كل مكان. |
| اللغة | تراثية، رصينة، ومعقدة أحيانًا. | معاصرة، بسيطة، وعاطفية. |
| العلاقة بالجمهور | مباشرة وشخصية (شيخ وتلميذ). | عن بعد وجماهيرية (نجم ومعجب). |
| الهدف | التعليم والتوجيه الروحي. | الجذب، التأثير، وأحيانًا الربح. |
خاتمة: الدين في سوق الميديا
لقد حرر الإعلام الدين من جدران المعابد، لكنه عرضه لقوانين السوق. أصبح الدين "سلعة" تُعرض وتُسوق وتُستهلك. هذا التحول يحمل فرصًا هائلة لتجديد الخطاب الديني والوصول لشرائح جديدة، لكنه يحمل مخاطر تسطيح الدين وتحويله إلى أداة للصراع أو الشهرة.
التحدي أمام المؤسسات الدينية والمثقفين هو كيفية استخدام أدوات الإعلام الحديثة دون الخضوع لمنطقها السطحي. كيف نقدم خطابًا دينيًا عميقًا ومستنيرًا بلغة العصر، يحترم عقل المتلقي ولا يدغدغ عواطفه فقط؟
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل أدى الإعلام إلى زيادة التدين أم نقصه؟
الأثر مزدوج. الإعلام زاد من "مظاهر" التدين وانتشار الرموز الدينية، لكنه ربما أضعف "عمق" التدين والمعرفة الفقهية الرصينة. كما أنه ساهم في ظهور تيارات لادينية كرد فعل على الخطاب الديني المتشدد الذي يبرزه الإعلام.
ما هو "الدين الرقمي" (Digital Religion)؟
هو مصطلح يصف الممارسات الدينية التي تتم عبر الإنترنت. لا يقتصر الأمر على المعلومات، بل يشمل الطقوس أيضًا (صلاة جماعية عبر زووم، حج افتراضي، اعتراف أونلاين). إنه يعيد تعريف مفهوم "المقدس" والمكان الديني.
كيف يؤثر الإعلام على صورة المرأة في الخطاب الديني؟
الإعلام سلاح ذو حدين هنا. من جهة، سمح بظهور داعيات وناشطات نسويات إسلاميات يقدمن تفسيرات مستنيرة. ومن جهة أخرى، لا يزال الكثير من الخطاب الديني الإعلامي يركز على جسد المرأة ولباسها بشكل هوسي، معيدًا إنتاج الصور النمطية التقليدية.
هل يمكن الوثوق بالفتاوى عبر الإنترنت؟
يجب الحذر الشديد. الإنترنت يعج بفتاوى غير دقيقة أو متطرفة أو صادرة عن غير متخصصين. الوعي الرقمي والبحث عن المصادر الموثوقة والمعتمدة هو السبيل الوحيد للتنقل في هذا البحر من المعلومات الدينية.
