في عالم يمزقه التعصب والتطرف، تبدو كلمة "التسامح" وكأنها الحل السحري لكل مشاكلنا. لكن، هل نفهم حقًا ما يعنيه التسامح؟ هل هو مجرد أن "أتحمل" وجودك رغم أنني أكرهك؟ أم هو أن أتجاهل اختلافاتنا وأدعي أننا جميعًا متشابهون؟
من منظور علم الاجتماع، التسامح الديني هو أكثر من مجرد فضيلة أخلاقية لطيفة. إنه "آلية بقاء" للمجتمعات الحديثة. إنه العقد الاجتماعي الذي يسمح لأشخاص يؤمنون بحقائق مطلقة ومتناقضة أن يعيشوا معًا في سلام، دون أن يقتل أحدهم الآخر. هذا المقال هو رحلة لاستكشاف المعنى العميق للتسامح: كيف نبنيه؟ وما الفرق بين التسامح السلبي والتسامح الإيجابي؟ ولماذا هو الشرط الأول لأي تقدم حضاري؟
مستويات التسامح: من الهدنة إلى الشراكة
التسامح ليس حالة واحدة، بل هو سلم نصعده تدريجيًا:
1. التسامح السلبي (التعايش البارد)
هو الحد الأدنى: "أنا لا أؤذيك، وأنت لا تؤذيني". هنا، نحن نتحمل وجود الآخر على مضض، ربما لأن القانون يفرض ذلك أو لأننا لا نملك القوة لإلغائه. هذا النوع هش، وقد ينهار عند أي أزمة، لكنه أفضل من الصراع المفتوح.
2. التسامح الإيجابي (الاحترام المتبادل)
هنا ننتقل من "التحمل" إلى "الاعتراف". أنا أعترف بحقك في الاختلاف، وأحترم خيارك الديني، حتى لو كنت أختلف معه تمامًا. أرى فيك مواطنًا شريكًا، وليس مجرد "آخر" غريب. هذا المستوى يتطلب ثقة وتضامنًا اجتماعيًا.
3. التقدير والاحتفاء (التعددية)
أعلى درجات التسامح هي أن نرى في التنوع الديني مصدر ثراء للمجتمع. نتعلم من بعضنا، ونحتفل بأعياد بعضنا، ونتعاون في القيم المشتركة لخدمة الصالح العام.
عوائق التسامح: لماذا نكره؟
بناء التسامح ليس سهلاً، لأنه يصطدم بعقبات نفسية واجتماعية:
- الخوف من الهوية: يعتقد البعض أن الانفتاح على الآخر يهدد هويتهم الخاصة. "إذا قبلت دينك، فهل يعني ذلك أن ديني ليس الحق المطلق؟". هذا الخوف يغذي الانغلاق.
- الصور النمطية والجهل: نحن نكره ما نجهله. الإعلام والتربية الخاطئة تزرع صورًا مشوهة عن الأديان الأخرى، مما يخلق حواجز نفسية تمنع التواصل.
- تسييس الدين: عندما يستخدم السياسيون الدين كأداة للحشد وكسب الأصوات، فإنهم يحولون الاختلاف الديني إلى صراع سياسي، مما يقتل التسامح ويغذي التطرف.
بناء التسامح: كيف نربي جيلاً متسامحًا؟
التسامح لا يولد معنا، بل نتعلمه. إنه "عضلة" اجتماعية يجب تمرينها:
- التعليم: المناهج الدراسية يجب ألا تكتفي بتدريس دين الأغلبية، بل يجب أن تعرف الطلاب على الأديان الأخرى بموضوعية واحترام، لكسر حاجز الجهل.
- الحوار: ليس حوار اللاهوتيين في الغرف المغلقة، بل "حوار الحياة" اليومي بين الجيران والزملاء. العمل المشترك في قضايا تهم الجميع (مثل البيئة أو الفقر) يقرب القلوب أكثر من ألف موعظة.
- القانون العادل: الدولة يجب أن تكون ضامنة للحياد والمساواة. عندما يشعر الجميع أن القانون يحميهم بالتساوي، يقل الخوف ويزداد الاستعداد للتسامح.
| الجانب | التعصب | التسامح |
|---|---|---|
| النظرة للحقيقة | أنا أملك الحقيقة المطلقة وحدي. | أنا أؤمن بحقيقتي، وأحترم حقك في إيمانك. |
| النظرة للآخر | عدو، ضال، تهديد. | إنسان، شريك، مختلف. |
| رد الفعل عند الاختلاف | عنف، إقصاء، تكفير. | حوار، تفهم، تعايش. |
| النتيجة الاجتماعية | حرب أهلية، انقسام. | سلم أهلي، ازدهار. |
خاتمة: التسامح قوة وليس ضعفًا
يعتقد البعض أن التسامح ضعف أو تنازل عن المبادئ. العكس هو الصحيح. التسامح يتطلب ثقة بالنفس وقوة داخلية هائلة. الضعيف هو الذي يخاف من الاختلاف فيلجأ للعنف ليمحوه. القوي هو الذي يستطيع أن يتمسك بإيمانه، وفي نفس الوقت يفسح مكانًا للآخر في قلبه ووطنه.
في عالمنا المعاصر، التسامح الديني ليس خيارًا إضافيًا، بل هو شرط البقاء. إما أن نتعلم العيش معًا كإخوة في الإنسانية، أو نموت معًا كأغبياء، كما قال مارتن لوثر كينغ.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل التسامح يعني الموافقة على كل شيء؟
لا، التسامح لا يعني أن توافق على معتقدات الآخر أو تتخلى عن معتقداتك. يعني فقط أنك تمنحه الحق في أن يؤمن بما يشاء، وتعاملة باحترام وعدل، حتى لو كنت تعتقد أنه مخطئ تمامًا.
هل هناك حدود للتسامح؟
نعم، "مفارقة التسامح" (كارل بوبر) تقول إنه لا يجب التسامح مع اللامتسامحين الذين يسعون لتدمير التسامح نفسه بالعنف والكراهية. التسامح ينتهي عندما يبدأ الأذى وانتهاك حقوق الإنسان.
كيف يساهم التسامح في الاقتصاد؟
المجتمعات المتسامحة تجذب الاستثمارات والكفاءات والمبدعين من كل الخلفيات. التنوع والابتكار يزدهران في بيئة منفتحة وآمنة. التعصب يطرد العقول ورأس المال ويخلق بيئة طاردة للاستثمار.
ما هو دور الشباب في نشر التسامح؟
الشباب، بفضل انفتاحهم على العالم عبر الإنترنت، هم الأقدر على تجاوز الحواجز التقليدية. إنهم يبنون صداقات عابرة للحدود والأديان، ويقودون مبادرات لنشر ثقافة السلام والتعايش، متحدين بذلك موروثات التعصب القديمة.
