في العقود الأخيرة، شهدت معظم دول العالم، بما فيها الدول العربية، ثورة تشريعية هادئة. تم تعديل الدساتير، وسن قوانين جديدة تجرم العنف، وتضمن المساواة في الأجور، وتمنح المرأة حق منح جنسيتها لأطفالها. على الورق، يبدو الوضع مثاليًا تقريبًا. لكن، اسأل أي امرأة في الشارع: هل تشعرين بالحماية الكاملة؟ هل تشعرين بالمساواة التامة؟ الإجابة غالبًا ما تكون "لا".
هذه الفجوة المؤلمة بين "النص القانوني" و"الواقع المعاش" هي جوهر قضية القوانين الخاصة بحقوق المرأة. من منظور علم الاجتماع، القانون ليس مجرد كلمات في كتاب، بل هو كائن حي يتفاعل مع المجتمع. إذا كان المجتمع يرفض القانون، فإن القانون يموت. هذا المقال هو تحليل لهذه المعركة الصامتة بين قوة القانون وسلطة العرف، وكيف يمكن تحويل الحقوق من حبر على ورق إلى واقع يحمي النساء.
التشريع كأداة تغيير: ما الذي تحقق؟
لا يمكن إنكار التقدم الهائل. القوانين هي الخطوة الأولى والضرورية لأي تغيير اجتماعي. لقد نجحت القوانين في:
- إسقاط الشرعية عن التمييز: عندما يجرم القانون التحرش أو العنف الأسري، فإنه يرسل رسالة قوية للمجتمع بأن هذه الأفعال ليست "شأنًا خاصًا" أو "تأديبًا"، بل هي جرائم يعاقب عليها. هذا يغير الوعي العام ببطء.
- فتح الأبواب المغلقة: قوانين الكوتا (الحصص) أجبرت الأحزاب على إشراك المرأة في العمل السياسي، وقوانين العمل فتحت مجالات كانت حكرًا على الرجال.
- تمكين الضحايا: وجود قانون يعطي المرأة السند للجوء إلى القضاء والمطالبة بحقها، حتى لو كانت الرحلة شاقة.
لماذا يتعثر التطبيق؟ قوة "القانون غير المكتوب"
المشكلة تكمن في أن القوانين الرسمية تصطدم بجدار صلب من القوانين غير المكتوبة (الأعراف والتقاليد) التي تحكم المجتمع فعليًا:
1. الثقافة الأبوية والقضاء
القضاة ورجال الشرطة هم أبناء مجتمعهم. إذا كانوا يحملون قناعات أبوية تقليدية، فقد يفسرون القوانين التقدمية بطريقة تفرغها من مضمونها، أو يتباطؤون في تطبيقها، أو يضغطون على الضحية للتنازل من أجل "لم الشمل" أو "الستر".
2. الجهل القانوني والوصول للعدالة
الكثير من النساء، خاصة في المناطق الريفية والفقيرة، لا يعرفن حقوقهن القانونية الجديدة. وحتى لو عرفن، فإن تكلفة التقاضي، وطول الإجراءات، والوصمة الاجتماعية المرتبطة بدخول المحاكم، تجعل الوصول للعدالة حلمًا بعيد المنال. هذا يعيق تمكين المرأة بشكل حقيقي.
3. التحايل على القانون
المجتمع يبتكر طرقًا للالتفاف على القوانين التي لا تعجبه. مثلًا، قد يمنع القانون زواج القاصرات، فيلجأ الناس إلى الزواج العرفي غير الموثق. قد يضمن القانون حق الميراث، لكن الضغط العائلي يجبر المرأة على التنازل عنه "طواعية" لصالح إخوتها الذكور.
مجالات الصراع القانوني: أين تكمن المعركة؟
تتركز المعركة القانونية اليوم في ثلاث ساحات رئيسية:
- قوانين الأحوال الشخصية (الأسرة): هي الحصن الأخير والأقوى للتمييز القانوني في العديد من الدول (الطلاق، الحضانة، الميراث). أي محاولة لتعديلها تواجه بمقاومة شرسة بدعوى حماية الدين والتقاليد.
- قوانين الحماية من العنف: رغم سن قوانين، إلا أن آليات التنفيذ (ملاجئ، أوامر حماية) غالبًا ما تكون ضعيفة أو غائبة، مما يترك الضحايا عرضة لـ العنف القائم على النوع.
- قوانين العمل: الفجوة في الأجور والتمييز في التوظيف لا تزال ممارسات شائعة رغم عدم قانونيتها، بسبب ضعف الرقابة والتفتيش.
| المجال | النص القانوني (المأمول) | الواقع الاجتماعي (المعاش) |
|---|---|---|
| الزواج | سن قانوني محدد (غالبًا 18). | زواج قاصرات عبر عقود غير رسمية. |
| العمل | أجر متساوٍ للعمل المتساوي. | فجوة أجور وتمييز في التوظيف. |
| العنف | تجريم وعقوبة مشددة. | لوم الضحية، وتستر عائلي، وإفلات من العقاب. |
| الميراث | حق شرعي وقانوني مكفول. | ضغط للتنازل (تخارج) لصالح الذكور. |
خاتمة: القانون وحده لا يكفي
القوانين ضرورية، لكنها ليست كافية. إن تغيير القوانين أسهل بكثير من تغيير العقول. لكي تصبح قوانين حقوق المرأة فعالة، يجب أن تكون جزءًا من مشروع تغيير اجتماعي شامل يتضمن التعليم، والإعلام، والخطاب الديني، والتمكين الاقتصادي. نحن بحاجة إلى تحويل القانون من "نص غريب" مفروض من الأعلى، إلى "ثقافة" يتبناها المجتمع ويؤمن بها.
المعركة القادمة ليست في البرلمانات فقط، بل في المحاكم، وأقسام الشرطة، والمدارس، وداخل البيوت نفسها. إنها معركة لجعل العدالة حقيقة يومية لكل امرأة، وليست مجرد وعد مؤجل.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل القوانين المستوردة من الغرب تناسب مجتمعاتنا؟
حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، هي قيم كونية وليست "غربية". ومع ذلك، فإن صياغة القوانين يجب أن تراعي السياق المحلي والثقافي لضمان قبولها وفعاليتها. النسويات العربيات يعملن على صياغة قوانين نابعة من الاحتياجات المحلية ومتوافقة مع مبادئ العدالة.
ما هو دور المجتمع المدني في تفعيل القوانين؟
دور حيوي. المنظمات النسوية والحقوقية تقوم بمراقبة تطبيق القوانين، وتوفير المساعدة القانونية للضحايا، وتوعية النساء بحقوقهن، والضغط على الحكومات لسد الثغرات التشريعية. إنهم "حراس القانون" في الميدان.
كيف يمكن للمرأة حماية نفسها قانونيًا؟
الوعي هو السلاح الأول. يجب على كل امرأة أن تعرف حقوقها القانونية (في الزواج، العمل، الميراث). كما يجب توثيق أي انتهاك (عقود، تقارير طبية)، وعدم التردد في طلب المشورة القانونية المتخصصة، واللجوء إلى منظمات الدعم.
هل هناك تراجع في الحقوق القانونية للمرأة في بعض الدول؟
نعم، الحقوق ليست خطًا مستقيمًا صاعدًا دائمًا. في أوقات الأزمات السياسية أو صعود التيارات المتشددة، قد تتعرض مكتسبات المرأة القانونية للتهديد أو الإلغاء. لذلك، فإن اليقظة والدفاع المستمر عن هذه الحقوق ضرورة دائمة.
